يتركون حظوظ النفس والهوى، و {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1.
لقد صنعت العقيدة الدينية الجماعة المسلمة صافية في توحيدها، وتوحدها، وتوجهها، وجعلت المؤمنين عبيدًا خاشعين لله، يرون في مكة قبل الهجرة سعادتهم في الطاعة، ويقصرون آمالهم في رضى الله، ويرجون سعادة حقيقية يعيشونها في الدنيا مع الناس، ويتمتعون بها في الآخرة عند الله.
فلما هاجروا إلى المدينة المنورة احتاجوا إلى الشريعة تنير لهم الطريق، وتعرفهم بمراد الله تعالى، وتطلعهم على أوامره ونواهيه، ليعيشوا في إطار المشروعية الدينية الصحيحة وليكون عملهم وخلقهم متوازنًا مع إيمانهم وعقيدتهم، وليكونوا سويًا مجتمع الحب، والتسامح، والتآلف.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة والمسلمون معه الإسلام كله ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 2.
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة تختلف عن سيرته صلى الله عليه وسلم في مكة من ناحية أحداثها، ووقائعها، وحركتها، وإن اتفقت في أنها جميعًا كانت في مجال الدعوة إلى الله تعالى.
في مكة عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن الوحي حتى بلغ سن الأربعين! وكان الله معه، يرعاه ويصنعه للرسالة فهيأ له التربية الصحيحة، وأبعده من مزالق الهوى، وأحاطه بخوارق العادات في صورة إرهاصات، ومبشرات، وعلامات ... كما أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد البعثة فترة الرسالة في مكة وسط قلة من المؤمنين مستضعفة أمام ظلم الكفرة وعدوانهم، وكثيرًا ما عانت، وتحملت، وصبرت، وتمسكت بدينها الذي آمنت به. أما في المدينة المنورة فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حياة القوة العادلة، وسط