الرحمة التي قدمناها أولا، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخّاذ من الرحمة، إنها ليست منّة على الطفل فقط، بل على أسرته كلّها.
نرى أعمى يمشي متوكّئا على عصاه، قد شارف هوّة عميقة أو بئرا، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله ويأخذ بحجزه، ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوّة، أفلا نسمّيه ملك الرحمة؟
هذا شابّ يافع، قرّة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرف على الغرق في نهر فائض يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفا بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله ربّ الأسرة أو إخوة هذا الشاب على أعناقهم، ويضمّونه إلى صدورهم بحرارة وحبّ، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر، ترى هل تساوي مظاهر الرحمة الأولى هذه الرحمة العظيمة الغالية؟!!.
ولكنّ آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقيمتها وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجل الإنسانيّة كلّها من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحيّ، وخطر عابر قد يزول، وهذا هلاك أبديّ، وخطر مستمرّ لا يزول، لذلك فإنّ رحمة الأنبياء بالنوع البشريّ لا تقاس أبدا على هذه الرحمات، رغم أهميّتها وعظمتها.
إنّ أمامنا بحرا هائجا مائجا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنّه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيّات، ترتفع أمواجه العاتية الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقضّ على الجماعات البشريّة كالأسد الضاري، والمشكلة أنّه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟، وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على برّ الأمان؟.