فصل وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْطَالِ الصَّحِيفَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً تَتَضَمَّنُ نَصْبَ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْفِيرَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِظْهَارَ اللَّهِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، دِلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِيمَا يَرْمُونَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَيَرْمُونَهُ مِنَ الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالتَّقَوُّلِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
* * * فَذَكَرَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ مُرْسَلَةً.
وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي دَوْسٍ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَحَذَّرُوهُ مِنْ رَسُول الله وَنَهَوْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ.
قَالَ: فو الله مَا زَالُوا بى حَتَّى أَجمعت أَلا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ، حَتَّى حَشَوْتُ أُذُنِيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا (?) فَرَقًا من أَن يبلغنِي شئ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ.
قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ.
قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ.
قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ أُمِّي! وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنَّ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِن كَانَ قبيحا تركته.