وَأَرَادُوا أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَتَّى يَرُوجَ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ.
فَعَصَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ إِلَى تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا فَنَزَلَ بِذِي أَوَانٍ - مَكَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ - نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي شَأْنِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُوله من قبل " الْآيَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ " ضِرَارًا " فَلِأَنَّهُمُ أَرَادُوا مُضَاهَاةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، " وَكُفْرًا " بِاللَّهِ لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، " وَتَفْرِيقًا " لِلْجَمَاعَةِ عَنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
" وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارب الله وَرَسُوله من قبل " وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ الْفَاسِقُ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ذهب إِلَى مَكَّةَ فَاسْتَنْفَرَهُمْ، فَجَاءُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَضْ أَمْرُهُ ذَهَبَ إِلَى
مَلِكِ الرُّومِ قَيْصَرَ لِيَسْتَنْصِرَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ عَلَى دِينِ هِرَقْلَ مِمَّنْ تَنْصَرَّ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، فَكَانَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَرُسُلُهُ تَفِدُ إِلَيْهِمْ كُلَّ حِينٍ.
فَبَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَبَاطِنُهُ دَارُ حَرْبٍ وَمَقَرٌّ لِمَنْ يَفِدُ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ، وَمُجَمِّعٌ لِمَنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قبل ".
ثمَّ قَالَ: " وَلَيَحْلِفُنَّ " أَيِ الَّذِينَ بَنَوْهُ " إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى " أَي إِنَّمَا أردنَا ببنيانه الْخَيْرَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ".
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: " لَا تَقُمْ فِيهِ أبدا " فَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ، لِئَلَّا يُقَرِّرَ أَمْرَهُ،