الفصل الرابع
هجرة الحبشة ومحنة الطائف ومنحة الإسراء
المبحث الأول
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الأخذ بالأسباب
من السنن الربانية التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة الأخذ بالأسباب، والأسباب جمع سبب، وهو كل شيء توصل به إلى غيره، وسنة الأخذ بالأسباب مقررة في كون الله تعالى، بصورة واضحة، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودعه من القوانين والسنن, ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد إرادته تعالى، فأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزرع بالماء ... وغير ذلك.
ولو شاء الله رب العالمين, لجعل كل هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجة إلى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته، الذي يريد أن يوجه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السنة ليستقيم سير الحياة على النحو الذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنة الأخذ بالأسباب مبرزة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فإنها كذلك مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية, والأخروية سواء، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15].
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25].
وهكذا يؤكد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوعى الناس بهذه السنة الربانية، فكان -وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية- يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئًا يسيرًا جزافًا وقد لمسنا ذلك