قد يقول قائل: لماذا أمر الله عز وجل المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟ ولماذا تحملوا الألم دون رد أو تغيير؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
الحكمة الكاملة من وراء ذلك المنع لا يستطيع البشر أن يتوصلوا إليها، لكننا سنبحث فيما نعتقد أنه السبب أو الحكمة، حتى نتعلم كيفية العمل في الظروف المشابهة.
الحكمة الأولى من كف المسلمين عن القتال: التربية على نوع جديد من الصبر، لن يتعلمه المسلمون إلا في مثل ذلك الوضع.
الصبر أنواع كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور، يصبر على الجوع، والحر، والفقر، وطول السفر، والآلام، والحروب، إلا أنه لا يصبر على تحمل الظلم، فله طبيعة ثائرة لا ترضى بالضيم والجور، يثور ولو ضاعت حياته، لكن الآن أصبحت لدى المؤمنين أبعاداً أخرى أعمق من متطلبات الفرد، وأصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة ومجتمعاً، ولا يستقيم للفرد أن ينظر إلى مصلحته الشخصية، بل يجب أن ينظر إلى مصلحة المجموع، وربنا سبحانه وتعالى يأمرهم ألا ينظروا إلى حظ نفوسهم، ولكن لصالح الأمة والجماعة، لأنه لا يمكن لأمة أن تقوم وأفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها، فيتحتم عليهم الكف عن القتال، حتى يتربى المسلمون على هذا النوع الجديد من الصبر.
الحكمة الثانية: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة؛ لأن الاختبار الحقيقي للطاعة هو أن تطيع دون جدل ولا ضجر ولا اعتراض، في أمر لا تهواه نفسك في غير معصية للخالق سبحانه وتعالى، هذا هو المقياس الحقيقي للطاعة، كما حصل من خباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ خباب رأى أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فأوضح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وبين له ضرورة الصبر.
حينها سمع وأطاع وكف اليد وقبل الأمر، وتعلم شيئاً في منتهى الأهمية للجماعة وهو الطاعة لولي الأمر، لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، ومن غير هذا الجو من التعذيب والأمر بالصبر عليه لن يتعلم المسلمون الطاعة في مشوار حياتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده.
إذاً: كانت الحكمة الثانية: تربية المسلمين على الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأي قائد ما لم يأمر بمعصية لله عز وجل.
الحكمة الثالثة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت تعطي نتائج أفضل.
ولبيان هذا الأمر نطرح سؤالاً: هل الغرض في النهاية هو حكم مكة أم إسلام مكة؟ الغرض إسلام مكة، ولا يهم من الذي سيحكمها بعد ذلك، المهم يحكمها بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذه البيئة المكية ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، ولو فرضت عليها الرأي بالقوة لن تقبله، وسيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وسيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين عناداً، فهم يعاندون لضعف المسلمين، فكيف لو فرضوا عليهم الرأي بالقوة؟! إذاً: لابد للداعية أن يدرس نفسيات من يدعوه من الناس، فمنهم من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء عقله، أو بقوة بدنه، ومنهم من يتأثر بلطفه وأدبه، وهكذا خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولابد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ويراعي ظروف المدعو، وظروف البيئة التي يعيش فيها.
الحكمة الرابعة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: تجنب الفتنة الخطيرة التي ستحدث في مكة وتؤدي إلى سمعة سيئة بالإسلام، وإلى الفتنة العظيمة، ولم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تقوم بتعذيب الناس، بل تكفل كل زعيم بأتباعه، تكفل الوالد بولده، وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته، والسيد بعبده، فمثلاً: مصعب بن عمير عذبته أمه، وعثمان بن عفان عذبه عمه، وخباب بن الأرت عذبته سيدته وهكذا، فلو قاتل المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم، فإنهم سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وفي هذا الموقف ما الذي سيقال عن الإسلام؟ إذا كان الكفار قد ادعوا أن الإسلام يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه من دون قتال، فكيف لو كان هناك قتال؟! إذاً: كانت هناك حاجة ملحة لتجنب الفتنة الكبيرة في داخل مكة، وللحفاظ على الصورة الجميلة للإسلام، وهي الصورة الواقعية لهذا الدين العظيم.
الحكمة الخامسة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الله عز وجل يعلم أن كثيراً من أهل الكفر سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، فالدعوة ما زالت في مهدها، ولم تأخذ الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكثير منهم سيعترض في البداية ويتشدد، ثم لا يلبث أن يتبدل الأمر في أعينهم، من هؤلاء عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل، فكل هؤلاء أصبحوا بعد ذلك قادة يأخذون الإسلام إلى كل ربوع الأرض، فلو حصل ا