المرحلة السلمية الثانية: تشويه صورة الداعية أمام الناس، وكانت حرباً إعلامية كبيرة بقيادة الوليد بن المغيرة وأبي لهب وغيرهما، فهذا تحالف من قبائل مختلفة لحرب الإسلام، فهذا أبو لهب من بني هاشم، والوليد بن المغيرة من بني مخزوم، فبنو هاشم رغم عداوتها لبني مخزوم إلا أنها متفقة معها الآن في خطة لشن حرب إعلامية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأقاموا مؤتمراً ضم معظم الفصائل المكية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعم هذا المؤتمر، قال الوليد: يا معشر قريش! إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم قول بعض.
ويتضح أن الوليد بن المغيرة يحارب الإسلام بذكاء، فهو يريد أن يجمع أقوال الناس في قول واحد؛ حتى يكون مقنعاً للناس في إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس قل وأقم لنا رأياً نقول به، فقال: بل أنتم قولوا أسمع يعني: يريد أن يخرج كل ما في أنفسهم، فبدءوا يفكرون في كذبة مناسبة، ولنعلم أنهم يعلمون أن ما يقولونه هذا ليس صواباً، ولكنهم يفترون على الله عز وجل الكذب، فقالوا: هو كاهن، والوليد بن المغيرة ذكي، قال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه.
يعني: لن يقتنع الناس إذا قلتم بأنه كاهن فقالوا: هو مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، يكفي من هذه الألفاظ أنه ليس بالجنون، فقالوا: هو شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
يعني: عرفنا كل أنواع الشعر، وهذا بالتحقيق ليس شعراً، قالوا: هو ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده.
قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فقال الوليد بن المغيرة: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق -العذق هي النخلة-، وإن فرعه لجناه -ما يجنى من الثمر-، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول -يعني: هو يعلم أن هذا القول ليس بصحيح، ولكن أكبر كذبة من الممكن أن تنطلي على الناس هي هذه الكذبة- أن تقولوا: جاء بقول هو سحر، وهو ساحر غير تقليدي، ليس كالناس المعروفين بالسحر عن طريق النفث والعقد، ولكنه يسحر بسحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
يعلم أنه يكذب، ومع ذلك شجع الناس لتكذب؛ لكي تحارب الدعوة.
فنزل قول الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:11 - 17]، وانظر إلى التصوير للحالة النفسية التي كان فيها الوليد بن المغيرة وهو يفكر كيف يحارب الدعوة: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:17 - 22]، صراع نفسي داخلي عنيف بين علمه بالحق وبين إنكاره له، وهكذا نفسية الكافر المضطربة، ثم ماذا كانت النتيجة بعد كل هذا التفكير الشديد الطويل؟ {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:23 - 25]، فما هو العقاب؟ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26].
إذاً: من سنن الله عز وجل أن يقف الكافرون ضد الحق وهم يعلمون أن هذا حق، فهم يقفون ويحاربون الدعوة بكامل طاقتهم، كما فعل الوليد بن المغيرة وكما فعل أبو لهب وغيرهما.
ثم مع كل هذا الإعداد ومع كل هذا المؤتمر الضخم، إلا أنهم ليسوا بموفقين؛ لأن الله عز وجل بنفسه يحاربهم، الإمكانيات الإعلانية لرسول صلى الله عليه وسلم كانت أقل بكثير من إمكانيات الكافرين، ومع ذلك كان يصل إلى الناس؛ لأنه يقول الحق، وشتان بين الحق والباطل! وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبطنك سطوة إعلان المحاربين لدعوة الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [الأنفال:59].
إذاً: فأول محور سلكه أهل الباطل في حرب