إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا هو الدرس السادس من دروس السيرة النبوية المطهرة المشرفة.
ذكرنا في الدرس السابق ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من بداية الدعوة السرية في أرض مكة، وكانت هذه الفترة قرابة ثلاث سنوات كاملة، وبلغ عدد المسلمين في آخر هذه الفترة نحو ستين فرداً من الرجال ومن النساء، وأصبح من المتعذر على أهل مكة أن يستأصلوا الإسلام بكامله؛ لأنهم كانوا من قبائل مختلفة، ومعظمهم من الأشراف، وهنا أذن الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وكانت مرحلة الدعوة الجهرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلة جديدة.
في أوائل هذه المرحلة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، بينما ظل بقية المسلمين في سرية ولم يجهروا، وهذا تدرج واضح في إيصال الدعوة للناس.
أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وأن يبدأ بأقاربه دون بقية الناس، وهذا أيضاً نوع من التدرج في إيصال الدعوة إلى الناس، قال الله له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ولماذا الأقربون بالذات؟ أولاً: لوجود حب فطري للداعية لأقاربه، وهم أقرب إلى الإجابة من غيرهم؛ إذ القريب ليست بينه وبين الداعية حواجز قبيلة أو عنصرية فهو يحبه حباً فطرياً.
ثانياً: حمية قبلية تدافع عنه، فهذا يعطي للداعية قوة، وبالذات إذا كانت للداعية عائلة كبيرة، فلو آمنت هذه العائلة بدعوته لأصبحت عضداً له في دعوته.
ثالثاً: أن دعوة الأقارب هي المسئولية الأولى الملقاة على عاتق الداعية: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم وأهمية دعوة الأقربين، فلو أن الداعية يحارب من داخل بيته أو عشيرته أو قبيلته، أو أن أباه أو زوجته أو ابنه يعوق مسيرته، فإن هذه أمور تعيق طريق الدعوة.
وهناك نقطة بنائية هامة لابد أن نخرج منها: وهي أن دعوة الأقربين أهم من دعوة عامة الناس؛ فهذا لوط عليه السلام عندما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، قال لهم: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]؛ لأن لوطاً عليه السلام لم تكن له عائلة قوية، فكان يتمنى لو أن له عائلة قوية لوقف أمام القوم يدافع عن ضيوفه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليقاً على هذا الكلام: (رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد -وهو الله عز وجل-، فما بعث الله بعده من نبي إلا في ذروة من قومه)، ليس عيباً أن الإنسان يحتمي بقومه وبعشيرته وبقبيلته مادام لا يتنازل عن شيء من عقيدته ودينه، على النقيض من هذا الموقف كان موقف شعيب عليه السلام، وانظر إلى قومه عندما جاءوا إليه ليعترضوا عليه قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ} [هود:91]، ولولا العائلة الضخمة الكبيرة التي تأوي إليها: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
إذاً: دعوة الأقربين هامة جداً في بناء الأمم، بل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت عليه هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] تحرك بسرعة صلى الله عليه وسلم، ودعا (45) من أهله إلى الطعام، والدعوة إلى الطعام ترقق القلوب؛ لأن فيها ألفة ومودة، فمن أجل أن يكلمهم في أمر الدعوة دعاهم أولاً إلى الطعام، ثم بعد ذلك يبلغهم أمر الدعوة، لكن قبل أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم وقف أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة، واعلم أنه ليس لقومك طاقة بالعرب قاطبة.
كان أبو لهب يسمع بأمر الدعوة وأمر الإسلام، ولكنه لم يعترض على الإسلام من قبل، ولم يعترض أحد من أهل قريش قبل ذلك، ومع اكتشافهم لبعض المسلمين؛ لأن المسلمين كانوا يكتفون بعبادات فردية، ويعبدون الله عز وجل في بيوتهم، فظن أهل قريش أنهم يفعلون أفعال الذين تنصروا أو اتخذوا الحنيفية ديناً، وأهل الباطل لا يمانعون أن تعبد ما تشاء في بيتك دون تدخل في المجتمع، أما أن يجمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس، ويبدأ في دعوتهم إلى ما هو عليه، ثم يسفه ما يعبدون من دون الله، ثم يحكمون الله في أمورهم! فهذا ما يرفضه أهل الباطل من قريش.
كانت هذه مبادرة أبي لهب، ثم أتبعها بكلام شديد، قال: ما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدع الناس، ولم يدخل في جدل مع أبي لهب، وهي حكمة نبوية بالغة؛ لأن الظرف غير موات، فليس من الحكمة إلقاء الدعوة في هذا الجو، وأبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أتباع وأنصار، فليجمع الرسول صلى الله عليه وسل