بعد غزوة بدر دخل المسلمون في مرحلة جديدة هامة أسميها: مرحلة زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات والابتلاءات والمعارك، فقد وقعت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، لكن المؤمن الصادق لم يكترث بهذا، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أحد ومأساة بئر معونة وحادثة ماء الرجيع، فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف.
هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.
هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم.
ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت.
وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان.
وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار.
وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها.
ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرح