إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فمع المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات السيرة النبوية، وهي -في الحقيقة- المحاضرة الأخيرة من هذه المجموعة: مجموعة الفتح والتمكين، وإنه لمن الصعب على النفس أن نتحدث عن خاتمة للسيرة، فإن أنفسنا قد تعلقت تعلقاً كبيراً بالحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فحديثنا عنه كان أسعد حديث، وتدبرنا لسيرته كان أجمل تدبر، واستفادتنا منها كانت أقصى استفادة، لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون -إن شاء الله- آخر حديثنا عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، بل ستتوالى بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته صلى الله عليه وسلم.
إن سيرته كانت مثالاً يحتذى به في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، مثالاً واضح المعالم للمجتمعات الصغيرة والكبيرة لبناء الأمم، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.
بعث صلى الله عليه وسلم في أمة مفرقة مشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة وصبر رائع يغير الأوضاع، يعدل من المسار، يقوم المعوج، يوضح الطريق، يكمل الأخلاق، ما ترك معروفاً إلا وأمر به، ولا منكراً إلا ونهى عنه، مع العلم أن طريقه لم يكن سهلاً، بل كان مليئاً بالصعاب والأشواك، فقد عارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته وقاومه أهله، ومع هذا ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة صلى الله عليه وسلم.
مر صلى الله عليه وسلم في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة.