جاء يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول إحدى عشرة هجرية، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر من مكة إلى المدينة، وما رأيت يوماً كان أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته، فأول هذا اليوم صلى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه الصلاة هي السابعة عشرة التي يصليها أبو بكر بالناس في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس رضي الله عنه: (كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة رضي الله عنها ينظر إلينا، ونظر إلى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثم تبسم يضحك صلى الله عليه وسلم) سعيد برؤيتهم وهم يصلون مجتمعين وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
يقول أنس (فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر).
لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يصلي معهم، ولم يأت عليه في الدنيا صلاة أخرى صلى الله عليه وسلم، لما ارتفع الضحى من ذلك اليوم دعا صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر في أذنها أمراً فبكت بكاءً شديداً رضي الله عنها وأرضاها، قال لها: (لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري؛ فإني نعم السلف أنا لك، فلما رأى صلى الله عليه وسلم بكاءها قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، وفي رواية: (أنه بشرها بأنها أول أهل بيته لحوقاً به صلى الله عليه وسلم).
لكن السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها الحبيب صلى الله عليه وسلم فدفعها ذلك إلى أن تقول: (وا كرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
وصدق صلى الله عليه وسلم كيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة وهو حي على وجه الأرض؟! فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يمرض: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير).
أي: يخير بين الموت، وبين البقاء في الدنيا.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف) يعني: نظر إلى السقف وكأنه يرى مقعده من الجنة، وكأنه يعرض عليه التخيير في هذه اللحظة، ثم قال: (اللهم الرفيق الأعلى).
فاختار لقاء الله عز وجل، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح).
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بالتخيير.
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه صلى الله عليه وسلم، فكانت عامة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه).
يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بحاجتين في غاية الأهمية، الأولى: الصلاة، ثم كذلك يوصي بالرقيق والعبيد مما ملكت أيمانكم، ويجمع بينهما، لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق.
يروي البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري).
السحر هو الصدر أو الرئة، والنحر هو الرقبة.
يعني: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسند رأسه على صدر ورقبة السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة رضي الله عنها وتقول: (وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: للرسول عليه الصلاة والسلام، لم يستطيع من صلابة السواك الجاف أن يحركه بين أسنانه صلى الله عليه وسلم فقالت السيدة ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته.
فأمره- وفي رواية-: أنه