في يوم الخميس الثامن من ربيع أول يعني: قبل الوفاة بأربعة أيام حدث موقف هام، روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اشتد به الوجع قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده -وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- فـ عمر رضي الله عنه أشفق على الرسول عليه والسلام، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)، يعني: عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يرى أنه لا داعي لإرهاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وقد حفظ الله عز وجل لهم القرآن، لكن بعض الصحابة اعترضوا على ذلك، وأرادوا أن يكتب لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الكتاب الذي يريد، فاختلف أهل البيت واختصموا وكثر اللغط، وارتفع الصوت، فلما حدث ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني).
من الواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يرى أن كتابة هذا الذي يريد كتابته أمر واجب ضروري، إنما هو أمر اختياري تقديري؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذا أربعة أيام ولم يطلب الكتاب مرة أخرى ليكتب، ولو كان ضرورياً لأمر به صلى الله عليه وسلم، لكن على الرغم من أن كتابة الكتاب لم تكن أمراً حتمياً، إلا أنه كان لغرض الإيضاح، وكان فيه خير ما، لكن منع المسلمون هذا الخير؛ بسبب اختلافهم وكثرة لغطهم.
والاختلاف دوماً يمنع كثيراً من الخير.
ضحى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخير الذي كانوا سيحصلونه في سبيل أن يمنع عنهم التنازع؛ ولأن وحدتهم كانت مقدمة عنده على ما دونها من مصالح.
وفي نفس هذا اليوم ثمانية ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا: قال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب).
والوصية الثانية: (وأجيزوا الوفد، بنحو ما كنت أجيزهم به).
يعني: أعطوا الوفد جائزة كما كنت أعطيهم، يعني: أقروهم وأحسنوا ضيافتهم.
أما الوصية الثالثة: فنسيها أحد رواة الحديث، واختلف العلماء في تحديدها، فبعضهم قال: القرآن، وبعضهم قال: تجهيز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وبعضهم قال: الصلاة.
وكان صلى الله عليه وسلم حتى ذلك اليوم وبرغم مرضه يصلي بالناس كل الصلوات، فصلى بهم ذلك اليوم الصبح والظهر والعصر، وبعد ذلك صلى بهم المغرب وقرأ في المغرب بـ (المرسلات عرفاً) ثم عاد إلى بيته صلى الله عليه وسلم وقد ثقل عليه المرض جداً، وأغمى عليه أكثر من مرة، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟ قال الصحابة: لا، هم ينتظرونك، فقال صلى الله عليه وسلم ضعوا لي ماء في المخضب).
مكان يغتسل فيه صلى الله عليه وسلم، أراد الاغتسال لتخفيف درجة الحرارة حتى يقوم لتأدية صلاة العشاء، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، فقال للمرة الثالثة: ضعوا لي ماء في المخضب فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه للمرة الثالثة، ثم أفاق: فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله).
أرأيتم الحرص على صلاة الجماعة، والحرص على الذهاب إلى المسجد مع هذا المرض الثقيل وهذا الإغماء المتكرر؟! يا حسرتاه على أقوام أصحاء يتخلفون عن صلاة العشاء وغيرها من صلوات الجماعة، والمساجد على بعد خطوات معدودات من بيوتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! بعد هذه المحاولات المضنية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك أنه لن يستطيع الخروج لصلاة الجماعة، وللمرة الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم -ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها- لم يستطع أن يتحرك، لكنه مع ذلك كان حريصاً على أمته حتى في أشد حالات مرضه صلى الله عليه وسلم، فما زال يردد: (أصلى الناس؟ أصلى الناس؟).
تقول عائشة رضي الله عنها: (والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة) في هذا الوقت قرر صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنه واحد من المسلمين لإمامة المسلمين في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فخافت السيدة عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها لو وقف مكان الرسول عليه والسلام، فقالت: (إن أبا بكر رجل أسيف -وفي رواية-: رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء) فلما أصر صلى الله عليه وسلم على اختيار أبي بكر لهذا الأمر أعادت عليه عائشة رضي الله عنها ومن معها من أمهات المؤمنين الاقتراح بتغيير أبي بكر