الوفد الثالث: هو وفد نصارى نجران، نجران بلد كبيرة في جنوب الجزيرة العربية، وكان أهل نجران يدينون بالنصرانية، فأرسلوا وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الوفد كان فيه أربعة عشر وافداً، وتقول بعض الروايات: إن الوفد وصل إلى ستين رجلاً.
وصل هذا الوفد بهيئة منظمة جداً، وفي صورة منمقة وصلت حد المبالغة، فقد لبسوا الثياب الحريرية وتحلوا بالذهب، والرسول عليه الصلاة والسلام يحرم هذه الأمور على الرجال، فكره صلى الله عليه وسلم أن يتكلم معهم وهم بهذه الصورة، وأجلهم يوماً، فجاءوا في اليوم الثاني وهم يلبسون لبس الرهبان، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في الحوار معهم، وهذا الوفد لم يكن من نيته ولا من همه أن يسلم أو يفكر في الإسلام، وإنما أتى ليناظر الرسول عليه الصلاة والسلام ويجادله من ناحية، وأتى ليبهره ويبهر المسلمين من ناحية أخرى؛ لهذا فالحوار معهم كان على صورة مختلفة كثيراً عن الحوار مع الوفود الأخرى.
فقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، هذه الكلمة صحيحة لو كانوا متبعين لكتبهم الأصيلة دون تبديل ولا تحريف، وفي هذه الكتب غير المحرفة بشارة برسولنا صلى الله عليه وسلم، وعلامات واضحة لنبوته، وأدلة دامغة على صدقه، لذلك فعلماء اليهودية والنصرانية يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرفون علاماته، ويوقنون بصدقه وبوجوب اتباعه، من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]، لكن منعهم الكبر والمصالح والدنيا والهوى والحسد، وأشياء كثيرة جداً منعتهم من الإسلام.
من أجل هذا أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كلمة (كنا مسلمين قبلكم)، وذكر لهم أنهم يحرفون دينهم في أمور كثيرة، وهذا التحريف يتنافى مع الإسلام، والإسلام معناه: أن يسلم الإنسان نفسه تماماً لله عز وجل، ويسلم نفسه لتشريعات الله عز وجل وقوانينه، ولا يسلم نفسه لأهوائه الشخصية أو مصالحه الخاصة.
قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (يمنعكم من الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً)، هذه أمور ثلاثة حرفتموها في الإنجيل، ولن تسلموا فيها لله رب العالمين، ولا يستقيم أن تطلقوا على أنفسكم مسلمين قبل أن تتركوا هذا الاعتقاد الفاسد، وللأسف هذا اعتقاد جازم عند معظم النصارى، وهو يمنعهم من التفكير في الإسلام.
وهناك أمر غريب جداً كنت دائماً استقربه ولم أفهمه إلا بعدما قرأت حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران، وهو أنه عند نزول المسيح عليه السلام قبل يوم القيامة يجعل من مهمته أن يصحح هذه الأمور التي ألصقت بدينه ولم تكن فيه.
انظروا إلى الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
وكما ذكرنا أن وفد نجران لم يكن يريد الإسلام، من أجل ذلك كثر الجدال بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكثر إلقاء الشبهات والرد عليها، وكان مما قالوه: (ما لك تشتم صاحبنا؟ -يقصدون عيسى عليه السلام- وتقول: إنه عبد لله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).
هذا ليس انتقاصاً أبداً من عيسى عليه السلام، بل العبودية لله تشريف، وهو رسول من أولي العزم من الرسل، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم عليها السلام، والتي نكرمها ونجلها، وننفي عنها أي شبهة سوء، فنقول: إنها مريم العذراء البتول، لكن النصارى يبالغون في تكريم المسيح عليه السلام حتى خرجوا به عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فقالوا: هو الله، وقالوا: هو ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، وكلها مبالغات غير مقبولة، إنها عقيدة فاسدة دفعهم إليها الحب والتقديس الزائد عن الحد المطلوب، من أجل هذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصاً عند موته على إبراز هذا المعنى؛ حتى لا يتجاوز المسلمون الحب المفروض له إلى الحب الذي يقود إلى ضلال وكفر، فيخرجون بطبيعة الرسول إلى غيرها، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت يقول: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه البخاري ومسلم.
ولكون النصارى في وفد نجران لا يتنازلون عن هذا الاعتقاد الفاسد، فإنهم غضبوا من وصف عيسى عليه السلام بالبشرية والعبودية وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجل الحجة الدامغة، حيث ضرب لهم مثلاً يوضح حقيقة عيسى عليه السلام، قال الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَ