أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السادس عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي مر بها المجتمع المسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بتجمع الرومان في البلقاء في الشام، فقرر الخروج إليهم في ظروف صعبة جداً، من الضائقة الاقتصادية الشديدة، والمسافة البعيدة، والحر الشديد، والعدو الرهيب، في هذه الأزمة الطاحنة برزت بوضوح الطبقات الخمس لأي مجتمع مسلم ممكن في الأرض، وكما ذكرنا في الدرس السابق فهذه الطبقات الخمس موجودة بصفة دائمة في أي دولة إسلامية ممكنة في الأرض، غير أنها تبرز بوضوح عند الأزمات الشديدة كأزمة تبوك مثلاً، هذه الطبقات الخمس: هي طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، وطبقة المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وطبقة عموم المنافقين، وأخيراً طبقة مردة المنافقين، وأنا أحب أن أؤكد على معنى هام جداً هو أن هذه الطبقات الخمس وإن كانت موجودة دائماً إلا أنها تتفاوت في الحجم بحسب طريقة التربية وقوة التربية، ولأن التربية الإسلامية ما شاء الله كانت على أعلى درجات التربية وأبهى الصور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد في طبقة المنافقين بشقيها سواء كان عموم المنافقين أو مردة المنافقين، لم نجد في غزوة تبوك أكثر من ثمانين منافقاً، أو أكثر من ثمانين بقليل، وهذه نتيجة الجهد الطويل والعظيم من المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا في الدرس السابق أن الجهد العظيم الذي قام به المؤمنون من طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، ساعد على تجهيز الجيش الإسلامي الكبير الذي خرج إلى تبوك في رجب سنة (9) هجرية، وكان عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مقاتل، وذكرنا أن نسبة التخلف كانت يسيرة جداً لا تتجاوز واحداً من عشرة آلاف، تصور ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مقاتل، وبرغم كل المعوقات التي حاول المنافقون أن يضعوها إلا أن الجيش العملاق خرج بالفعل بفضل الله عز وجل.
ترك الرسول عليه الصلاة والسلام على إمارة المدينة المنورة محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وترك على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبدأ الجيش المناضل في رحلة طويلة جداً شاقة جداً وفي صبر جميل، صبر على الجوع، وصبر على التعب، وصبر على الحر، وكان الزاد قليلاً جداً، حتى إن الرجلين والثلاثة كانوا يقسمون التمرة بينهم، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره الإبل بطونها، إنه ابتلاء كبير جداً، ويبتلى المرء على قدر دينه.
وكأن هذا الابتلاء ليس كافياً، فيأتي ابتلاء جديد؛ لاختبار الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المسلمون إلى منطقة الحجر، منطقة الحجر هي الآن موجودة في شمال السعودية، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح عليه السلام، وقوم صالح كما تعرفون أهلكوا في هذه المنطقة لما كفروا بربنا سبحانه وتعالى، في هذه المنطقة أبيار للماء، ورأى المسلمون أبيار الماء وأسرعوا إليها قبل استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وملئوا الأوعية بالماء وعجنوا العجين بهذا الماء؛ ليصنعوا خبزاً يشبعهم بعد طول جوع، فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر أمرهم بأمر شاق جداً على نفوسهم قال لهم: (لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً)؛ لأن هذا الماء غير مبارك، فهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة.
قد يأتي من يجادل ويقول: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه فيشرب منه البر والفاجر، ويشرب منه المؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء والطريق صعب.
وقد يأتي مجادل آخر ويقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب من ماء مكة وغيرها ولا يسأل أهو ماء كفار أم ماء مسلمين؟ كل هذه الحجج والشبهات قد تثار، لكن الغرض كان واضحاً؛ وهو الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليست الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يخفي الله عز وجل حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا له، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار ولم