مع كل الأضرار التي قلناها إلا أنه يبقى أشد خطر لهم هو تغيير قناعة المسلمين الصادقين بكفرهم، قد يصل الأمر إلى أن يطيع بعض المؤمنين كلام المنافقين ظناً منهم أن هذا هو الصواب، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، اضطراباً وضعفاً وخوراً وجبناً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
فبعض المؤمنين لا يستمع فقط إلى كلام المنافقين، بل يكثر السماع، كما قال تعالى: (سماعون) أتت الكلمة بصيغة المبالغة لتفيد كثرة السماع، وليس ذلك لضعف يقين، أو لشك في القلب، ولكن لقوة الشبهة ومهارة الصياغة، وحلاوة اللسان، وبلاغة القول قد يقع المؤمنون الصادقون بسبب هذه الشبهات في أخطاء جسيمة، قد يقعون في كبائر عظيمة، ما كانوا يتخيلون أبداً أن يقعوا فيها في يوم من الأيام، لكن أحياناً للقول فعل السحر في الإنسان، من أجل ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (وإن من البيان لسحراً).
إذاً: فقصة المنافقين في الدولة الإسلامية قصة خطيرة فعلاً، فآثارهم جسيمة على المجتمع المسلم، ومع ذلك لا يصح أن يحزن المؤمن إذا شاهد كثرة المنافقين في زمن من الأزمان، إذا شاهد تبجحهم وظهورهم في وسائل الدعاية والإعلان، والكلام بشكل فاضح معلن، فمثل هذه المواقف تحمل خيراً عظيماً، فهي تكشف أوراقهم، وتظهر نياتهم المختفية في صدورهم، فيحذرهم المسلمون.
من هذا الخير أيضاً: أن ظهورهم بكثافة دليل على قوة الأمة الإسلامية، دليل على صلابة الأمة الإسلامية، الدولة الضعيفة -كما ذكرنا قبل ذلك- لا تُنَاَفق، ولكنهم ينافقون الدولة القوية، إذا رأيت هناك كثرة في المنافقين، فاعلم أن الإسلام بخير، واعلم أن قوته قد بلغت حداً يدفع الآخرين إلى نفاق المسلمين، هكذا كان الوضع في غزوة تبوك؛ تميز الصف بوضوح إلى هذه الطبقات الخمس التي يتألف منها أي مجتمع مسلم في أي زمان وفي أي مكان، ولكن بنسب متفاوتة مثلما قلنا.
طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بصفة مؤقتة، طبقة عامة المنافقين، وأخيراً: طبقة مردة المنافقين.
وبرغم كل معوقات المنافقين إلا أن الجيش العملاق بفضل الله تجهز، وكان تعداده ثلاثون ألف مقاتل مسلم، وهو أكبر جيش إسلامي حتى هذه اللحظة، وخرج هذا الجيش بالفعل إلى تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة.
ترى ماذا فعل هذا الجيش العملاق في طريقه من المدينة المنورة إلى تبوك؟ وماذا فعل الرومان هناك في أرض تبوك؟ وما هي الآثار العظيمة التي تحققت من وراء هذه الغزوة العظيمة غزوة العسرة، أو غزوة تبوك؟ هذا ما سنعرفه -إن شاء الله- وغيره في الدرس القادم.
وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].