بقي في قصة هوازن فصل عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل واستفادة، يحتاج أن نحمله ليس فقط للمسلمين، ولكن إلى أهل الأرض جميعاً لنقول لهم: هذا هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم، فأي قدوة تتبعون؟! هذا الفصل العجيب هو أنه صلى الله عليه وسلم اكتشف أن مالك بن عوف النصري الزعيم الشاب قائد هوازن الذي جمع الجموع للحرب، والذي كان يريد أن يستأصل المسلمين، اكتشف أنه ليس مع الوفد المفاوض، وهو زعيم الناس ولم يأت معهم، ولم يسمع عنه كلمة، فسأل عنه، فقالوا له: إنه في الطائف في حصون ثقيف يخشى على نفسه من القتل، فقام صلى الله عليه وسلم في موقف رائع لا يقل عن المواقف الرائعة السابقة فقال: (أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله) يعني: ليس أهله فقط، وإنما أهله وماله، ثم قال: (وأعطيته مائة من الإبل).
هل ترون كم هو عظيم صلى الله عليه وسلم؟! لقد كان الهدف الأسمى في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام هداية الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، بغض النظر عن تاريخهم وعن عداوتهم السابقة له وللمسلمين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغب عن ذهنه هذا الهدف, فهو حتى مع مالك بن عوف ما زال يحرص على إسلامه وهدايته.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قائد محنك حكيم مجرب، يقدر الأمور بحكمة، ويزن الأشخاص بميزان الذهب أو أدق، فـ مالك بن عوف النصري قوة لا يستهان بها، ولا يمكن أبداً أن تتجاهل، فهو رجل استطاع أن يجمع ويحرك أكثر من (25000) ألف مقاتل، واستطاع أن يقنعهم أن يضحوا بكل ثرواتهم من أجل قضية ما، فوجود هذا الرجل خارج الصف أمر خطير فعلاً، وخاصة أنه في ثقيف، وثقيف لم تسلم بعد، وخطر ثقيف لم ينقطع عن المسلمين، ووجود شخصية خطيرة مثل هذه في داخل حصون ثقيف أمر لا تؤمن عواقبه، ثم إن هذا الرجل استطاع تحريك الجموع الكثيرة من أجل قضية قبائلية تافهة بالقياس إلى أهداف القتال في الإسلام.
فماذا سيحصل لو انضم هذا القائد الخطير إلى صفوف الجيش المسلم؟ ماذا سيفعل لو أصبح مقاتلاً في سبيل الله بدلاً من أن يكون مقاتلاً في سبيل هوازن؟ لذلك حرص الرسول عليه الصلاة والسلام كل الحرص على إسلامه، وحرص في نفس الوقت على حفظ كرامته، فرفع قيمته فخصه بوضع غير الناس، خصه بإعادة المال له مع الأهل، وليس فقط الأهل، ووعد بإعطائه مائة من الإبل كنوع من تأليف القلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن إسلام هوازن ضربة كبيرة جداً لـ مالك بن عوف، ومع ذلك لم يرد أن يكسر معنوياته، ولم يرد أن يذله وأن يعيره بانضمام جنوده إلى جيش المسلمين، وإنما عرض عليه عرضاً مغرياً جداً، وهو يعلم أن وضع مالك الآن أصبح صعباً للغاية، ومن ثم فتح له باب الرجوع إلى الله، والانضمام إلى دولة الإسلام.
هذه هي الحكمة، لو تريد أن تعرف ماذا تعني كلمة حكمة، فادرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وصل الخبر إلى مالك في الطائف، وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام كان وضع مالك صعباً جداً شديد الصعوبة، كان يتخوف على نفسه من قبيلة ثقيف، فقد أصبح وضعهم في مأزق خطير، كتب عليهم أن يحصروا في مدينتهم، ومالك هو الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب، فأصبح خائفاً منهم، ومالك لم يعد لديه أتباع، فقد أسلمت قبيلته، وأصبح موقفه في غاية الحرج، فجاءت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام منقذة له من أزمة خطيرة، جاءت هذه الدعوة لتخرجه من موقف لا يحسد عليه، وبالفعل لم يتردد مالك بن عوف لحظة ولم يفكر كثيراً، بل أسرع من فوره إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه بين يديه.
هل يوجد أحد في الدنيا كان يتوقع نتيجة مثل هذه بعد شهرين من موقعة حنين؟! أرأيتم المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر؟! أي قائد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ممن لا ينهج نهجه يكون همه الأول بعد النصر البحث عن قواد عدوه، لكي يحكم عليهم بالحبس، أو بالنفي، أو بالقتل، ويضع لهم صوراً على الإنترنت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كل البشر بغض النظر عن تاريخهم أو مواقفهم السابقة، فكانت نتيجة موقفه ذلك أن أسلمت هذه الشخصية القيادية الفذة مالك بن عوف، فقوة مالك بن عوف التي تكلمنا عليها قبل ذلك، وقدرته على الحشد سيكون في صالح المسلمين.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن مالك بن عوف إنما أسلم في ظروف صعبة، وقد يكون إسلامه رغبة في المال والأهل والإبل، أو رهبة من ثقيف أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نثبت أقدامه في الإسلام؟ كيف نستفيد من طاقاته وقدراته؟ هل بمائة من الإبل أم أن هناك وسائل أخرى؟ انظروا إلى فعل النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم، قام بخطوتين مبهرتين: الخطوة الأولى: أعاد مالك بن عوف إلى زعامة هوازن.
ومثل