كانت وسائل تحقيق النصر في حنين عجيبة، كما كانت عجيبة قبل ذلك في بدر والأحزاب وخيبر ومكة وغيرها وغيرها.
لقد أنزل سبحانه وتعالى على المؤمنين السكينة، فقاتلوا بثبات وقوة، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] ما عادوا يرون (25.
000) مقاتل قدامهم، فثبتوا في أرض القتال، وأنزل الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين فولوا مدبرين، متنازلين بسهولة شديدة عما حققوه من نصر، وعن كل تقدم وصلوا إليه، وأنزل الله عز وجل الملائكة، كما قال سبحانه: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26].
في لحظات يسيرة يفر الجيش المشرك من الجيش المسلم، فر أكثر من (25.
000) مقاتل في عدة حسنة وفي مواقع إستراتيجية جيدة وفي حالة معنوية عالية من (12.
000) مجاهد، وتفرقوا هنا وهناك، لا تسأل عن الأسباب المادية، فقط قل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10].
يقول أحد الصحابة: فما ثبتوا لنا حلب شاة يعني: مدة قصيرة جداً، انطلقوا في كل اتجاه يفرون، الرعب يملأ قلوبهم، تركوا وراءهم أموالهم وأنعامهم وأكثر نسائهم وأولادهم.
ووصف الله عز وجل موقف المشركين بعد عودة المسلمين إلى ربهم سبحانه وتعالى بقول بليغ مختصر معجز، قال سبحانه وتعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] من العذاب أن تأخذ قرار الفرار من العذاب أن تهرب وأنت الأكثر عدداً وعدة من العذاب أن تتنازل عن حصاد السنين من المال والأنعام في لحظة واحدة هكذا من العذاب أن تتخلى عن زوجتك وأولادك؛ لأن الرعب يملأ قلبك من العذاب أن تشعر أن كل شيء يطاردك حتى الجماد.
وهذه حقيقة فهذا عمرو بن سفيان الثقفي كان من المشركين الذين فروا في حنين والحمد لله أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، يقول: فانهزمنا، فخيل إلينا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا.
قال: فأعجرت -أي: أسرعت- على فرسي حتى دخلت الطائف.
هذا هو العذاب بعينه: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:26] فر الجيش المشرك في ثلاثة اتجاهات، فر جزء إلى أوطاس جانب من وادي حنين، والجزء الثاني فر إلى منطقة نخلة، والجزء الثالث والأساسي فر إلى مدينة الطائف، هرب الجميع بهذه الصورة المخزية المشينة، وهرب معهم قائدهم مالك بن عوف الذي دفعهم إلى هذه المهزلة العسكرية، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك، وطردوا المشركين في كل مكان، وتوجهت سرية إلى أوطاس، وأخرى إلى نخلة، وتوجه الجيش الرئيسي بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الطائف لحصار هوازن وثقيف في داخل الطائف.
وأوقف الرسول عليه الصلاة والسلام توزيع الغنائم الهائلة التي حصلوها حتى يعود من الطائف، وجعل كل هذه الغنائم في وادي اسمه وادي الجعرانة إلى جوار حنين، وكانت هذه أكبر وأعظم غنائم تحصل في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة؛ لأن مالك بن عوف أتى بكل صغيرة وكبيرة في قومه ليجعلها بعد ذلك في أيدي المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله).
لقد بلغ السبي من النساء في هذه الموقعة (6000) امرأة، هذا عدد هائل، وتجاوز عدد الإبل (24.
000)، وتجاوز عدد الأغنام (40.
000)، والفضة تزيد على (4.
000) أوقية، يعني: حوالي (150) كيلو جرام من الفضة.
هذا نصر هائل، لم يتوقعه ولم يحلم به أحد، فمعركة حنين غريبة جداً، وعجيبة بكل المقاييس، وكان شهداء المسلمين في هذه الموقعة الضروس خمسة شهداء فقط، وقتلى المشركين (70) قتيلاً، ومن يشاهد الأعداد الهائلة المشتركة في هذه الموقعة (12000) مجاهد يحاربون أكثر من (25.
000) يظن أن الضحايا سيكونون بالمئات أو بالآلاف، لكن هذا الكلام لم يحصل.
أول المعركة فر المسلمون دون قتال تقريباً، وآخر المعركة فر المشركون دون قتال تقريباً كذلك، وهذه النتائج الهائلة والغنائم العظيمة جاءت دون قتال يذكر، وإنما فر وكر من المسلمين ثم كر وفر من المشركين، هكذا تغيرت الأحداث في دقائق، انقلب النصر للمشركين إلى هزيمة لهم وتحولت الهزيمة للمسلمين إلى نصر لهم، والفارق تغير قلبي لا يراه أحد من البشر، لكن الله عز وجل يراه، فانحراف في الفهم ولو للحظات أدى إلى الفرار، وعودة إلى الفهم الصحيح في لحظات أدى إلى النصر؛ لتبقى الحقيقة واضحة في الذهن وراسخة في أعماق المسلمين: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
لا يخفى علينا أن حنيناً تتكرر كثيراً في حياتنا، ما أكثر توكلنا على الطبيب الماهر المشهور للدرجة التي تمنعنا أحياناً من رفع الأيدي إلى الله عز وجل لطلب الشفاء من الله الشافي، لا أقصد عدم التداوي، التداوي أمر نبوي، لكن الاعتماد على الطبيب ونسيان رب الطبيب هذا لا يقبل.
كثيراً ما نثق بمال الأغنياء من الب