لقد كان فتح مكة فتحاً مجيداً بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفاً معادياً جداً من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، فقد شعرت وأحست أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه اقتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قليل، من أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العدة لحرب الدولة الإسلامية، قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارجاً عن السيطرة، فكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج وهذا الأسلوب قبيلة هوازن.
يعلم الجميع مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بغض النظر عن الحق أو العدل، وكان هذا من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة.
من أجل أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين لا بد أن نرجع قليلاً إلى ذاكرة التاريخ، من أجل أن ندرس جذور هذه القبيلة وعلاقة هذه القبيلة بقريش.
ينقسم العرب بصفة عامة إلى قسمين رئيسيين: ينقسمون إلى عدنانيين وقحطانيين، العدنانيون ينقسمون إلى: ربيعة، ومضر، ومضر تنقسم إلى: إلياس وعيلان، وقبيلة قريش تأتي من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان أيضاً بعد تفرعات كثيرة، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الحزازيات بين القبائل، ويفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها.
إذا كان يحصل تنافسات وصراعات بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك لو كانت القبائل بعيدة الأنساب عن بعضها البعض؟ يعني مثلاً: كلنا يعلم ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، ومخزوم وقصي كانا أولاد عم مباشرة، ومخزوم هو الذي جاء منه قبيلة بني مخزوم، وقصي الذي جاء منه بنو هاشم بعد ذلك، ومع ذلك كان الصراع شديداً بين القبيلتين، تنافس قبلي، وقد يصل الأمر إلى المنافسة العسكرية الدموية.
كذلك كلنا يعلم الصراع بين الأوس والخزرج مع أن الاثنين أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكن داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية.
والرسول عليه الصلاة والسلام من قريش؛ فلهذا القبائل البعيدة عن قريش ستفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظاً من القبائل القريبة من قريش، فهذا أبو جهل لم يرض أن يدخل الإسلام من أجل القبلية، مع أنه قريب من الرسول عليه الصلاة والسلام.
عندما نرجع لشجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه سنفهم أحداثاً كثيرة جداً في السيرة، ستجد مثلاً أن القبائل البعيدة جداً عن قريش هي من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، فأبعد الفروع عن قريش هي الفروع التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين مثل: قبائل قضاعة، طي، مذحج، بجيلة ومنهم من كان شديداً جداً على المسلمين مثل: بني لحيان، لكن يشذ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج فقد أسلموا قديماً، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنية لهذه القبائل، ثلاث قبائل: الأوس والخزرج وأسلم من قبيلة الأزد اليمنية.
وأهل اليمن يتميزون برقة القلب وقوة العاطفة، يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً) رواه البخاري ومسلم.
إذاًَ: فروع قحطان كانت من أواخر القبائل إسلاماً، باستثناء الأوس والخزرج وأسلم.
أيضاً من الفروع البعيدة جداً عن قريش ربيعة، فربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة وبين مضر كبير جداً وطويل، فربيعة تأخر إسلامهم جداً، مثل: بني بكر بن وائل، بني تغلب، بني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء للمسلمين ولم يسلم إلا مضطراً، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وبعضهم حتى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم مثل: بني حنيفة.
إذاً: تأتي بعد كذا مضر تنقسم إلى قسمين رئيسين: إلياس وعيلان.
وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، فقيس هذا أشهر أبناء عيلان فاشتهرت القبيلة بكاملها بكلمة (قيس عيلان).
وقريش كما ذكرنا هي من إلياس؛ من أجل ذلك تجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس ومنها قريش.
وقبائل عيلان كثيرة جداً، لكن أشهر هذه القبائل ثلاث قبائل، وعندما تسمع أسماء هذه القبائل الثلاث ستفسر لك مواقف كثيرة جداً في السيرة رأيناها ولا زلنا سنراها.
فأهم ثلاث قبائل في عيلان هم: غطفان، وبنو سليم، وهوازن، ونحن رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك عانوا من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وأسلم بنو سليم، وكان من الواضح جداً أن إسلامهم كان إسلام المضطر، فهم انبهروا جداً بقوة الإسلام، وشعروا أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحاً مدمراً لذلك آثروا السلامة، آثروا أن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة وقبيل فتح مكة المكرمة، والإسلام لم