إن الأحداث في فتح مكة من الصعب أن تحصى في لقاء واحد؛ لأن الأحداث كثيرة جداً، وكنت أود أن أتكلم فيها، لكن الوقت لا يتسع؛ لذلك سأختار بعض الحوادث القليلة التي أعلق عليها تعليقاً سريعاً، ونسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا في اللقاءات الأخرى لنفصل في موقف من أهم المواقف اللافتة للنظر في فتح مكة، وهذا الموقف: هو الموقف من المرأة المخزومية التي سرقت، هذه المرأة سرقت بعد أن فتحت مكة، وكانت من النساء اللاتي أسلمن، فهي من بني مخزوم شريفة من الأشراف، وقبيلة بني مخزوم قبيلة كبيرة جداً، وكما يعلم الجميع أن العلاقة بين بني مخزوم وبني هاشم كانت علاقة حساسة جداً، وكان التنافس بينهما على كل الأمور تقريباً، وكان أبو جهل زعيم بني مخزوم، وكان الموقف حرجاً جداً مع هذه القبيلة بالذات، ويخشى من أن تنقلب على المسلمين انقلاباً قد لا يحمد عقباه، ومع أننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يحاول قدر المستطاع أن يؤلف قلوب القبائل، فألف قلوب بني أمية، وألف قلوب بني عبد الدار، وألف قلوب بني عامر كما ذكرنا في الدرس، لكن هذا حدث مهم مع بني مخزوم، وقد يفهمه الفاهمون أنه ليس فيه نوع من التأليف لبني مخزوم، لكن نحتاج أن ندرس الموضوع بدقة.
فهذه امرأة من أشراف بني مخزوم سرقت، فقرر صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهو أن يقطع يدها؛ لأنها سرقت واكتملت أركان جريمة السرقة، وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: أريد أن أتألف قلوب بني مخزوم بالعفو عن هذه المرأة التي سرقت، لكنه أقام عليها الحد مضحياً بما قد يحدث من أحداث دامية في داخل مكة نتيجة تطبيقه لهذا الحد، لأجل أن يرينا معنى مهماً جداً ويزرع فينا معنى لازماً ينبغي أن نفهمه جميعاً فهماً جيداً دقيقاً، ألا وهو: أنه لا يمكن أبداً لأي إنسان مهما كان نسبه ومهما كان شريفاً ومهما كان عظيماً أن يتغاضى عنها أو يعطلها، أو يقوم بأمر من الأمور يمنع من إقامتها في الدولة الإسلامية، حتى لو كانت العواقب وخيمة، وقرر صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر وشاع بين الناس أن المرأة المخزومية ستقطع يدها، فذهب بنو مخزوم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفعوا عنده، لكن لم يستطيعوا أن يكلموه مباشرة، فذهبوا إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما فقد كان يسمى بين الصحابة: الحب بن الحب، كان حب الرسول عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد هو الحب بن الحب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، ففي أثناء دخوله مكة المكرمة في يوم الفتح أردفه خلفه، من شدة حبه له رضي الله عنه وأرضاه.
فذهبوا إلى أسامة وقالوا له: استشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها؛ فهي امرأة عزيزة شريفة من بني مخزوم، فـ أسامة بن زيد رضي الله عنهما أخذ الموضوع بسهولة ويسر وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفع لهذه المرأة في حد من حدود الله، فلما كلمه أسامة، تلون وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً، وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله أتشفع في حد من حدود الله؟!) حتى إن أسامة بن زيد رضي الله عنهما لم يجد أي مبرر إلا أن يقول: (يا رسول الله استغفر لي يا رسول الله استغفر لي).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على السيدة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولكنه في آخر اليوم قام وخطب خطبة ليفهم المسلمين هذا المعنى الدقيق؛ ليضع لهم أسس بناء دولة إسلامية، ليوضح لهم أن العدل أساس الملك حقاً، وتطبيقاً واقعياً في حياة المسلمين، قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها) هكذا في منتهى الوضوح، فحدود الله سبحانه وتعالى لا يمكن أبداً أن نقترب منها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، هكذا ينبغي أن نكون مع حدود رب العالمين سبحانه وتعالى.
فهو صلى الله عليه وسلم تألف قلوب الناس بأمور مالية وبأمور مادية هذا أمر ممكن، أما أن يتألف قلوب الناس بتعطيل حد من حدود الله فهذا لا يقبل مطلقاً، مهما كان هذا الذي أخطأ عزيزاً أو شريفاً كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فأي إنسان وقع في حد من حدود الله لابد أن يقام عليه الحد.
وهذه الكلمات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)، حتى يفهم بني مخزوم أن هذا أمر ليس خاصاً بهم، و