تعالوا بنا نرى قصتهم واحداً واحداً وفيها من العبر ما فيها، فهذا سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وهو من كبار زعماء قريش، ومن كبار زعماء مكة في التاريخ، وكبير جداً في السن، وعنده الكثير من الأولاد، وهؤلاء الأولاد معظمهم من المسلمين وفي جيش المسلمين الفاتح لمكة المكرمة، فهو بعد أن فتحت مكة المكرمة لم يجد له عوناً من الزعماء الذين كانوا معه؛ فكل واحد فر، ففر هو الآخر ودخل بيته، يقول: فانقحمت في بيتي وأغلقت علي بابي، ثم يقول: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل وابنه كان من جنود الجيش الفاتح كان قد أسلم قبل ذلك بزمن، فقال سهيل: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لا آمن من أن أقتل.
فـ سهيل بن عمرو ظل يتذكر تاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تذكرت أثري عند محمد وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته المعاهدة التي تمت في صلح الحديبية، لو تذكرون كان سهيل بن عمرو ممثل قريش وزعيم قريش الذي أرسلته ليتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، فيجد أنه أثر تأثيراً سلبياً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، ويظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يتذكر له هذه المواقف.
ثم يقول سهيل بن عمرو: ومع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت معها، فهو يخاف أن يقتل، فذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله هل تؤمن أبي؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم، هو آمن بأمان الله؛ فليظهر)، انظروا إلى هذا التعامل مع أحد كبار زعماء مكة المكرمة، ومدى العظمة في هذا التعامل، بينما عند احتلال أي دولة لدولة ثانية تجد أن الأمراء والوزراء والكبراء في البلد يتتبعون في كل مكان؛ ليقتلوا، أو يسجنوا في السجون فترات طويلة، أو يمثل بهم أو كذا أو كذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي سهيل بن عمرو الأمان، ويقول: (فليظهر).
وانظروا إلى ما سيأتي من حوار بعد ذلك بينه وبين سهيل بن عمرو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين حوله في ذلك الوقت: (من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه)، احذروا أن تروعوا سهيل بن عمرو حين يأتي للتحاور معي، (لا يشد أحدكم النظر إليه، فليخرج، فلعمري إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بناء) فـ سهيل عرف المشكلة التي كانت عنده، والآن هو يريد أن يعود إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يرفع أحد إليه النظر، ولا يتهكم أحد عليه بكلمة، ولا يعلق أحد عليه تعليقاً سلبياً بأي صورة من الصور.
إن له عقلاً وشرفاً.
هكذا يذكر صلى الله عليه وسلم صفة سهيل بهذا التعظيم والتكريم له، مع أنه من ألد أعدائه قبل ذلك.
انظروا إلى الرحمة النبوية وإلى فن امتلاك القلوب وعبد الله بن سهيل عندما استمع إلى هذه الكلمات طار بها إلى أبيه، فلما ذكر له هذه الكلمات قال سهيل: كان والله براً صغيراً وكبيراً، وأتى سهيل بن عمرو وأعلن إسلامه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما يقول الرواة بعد ذلك: كان سهيل بعد هذا الإسلام كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وكان أميراً على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك.
بهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب الناس، فعلاً هو فن الدعوة إلى الله عز وجل، ليس أبداً تصرف قائد متغطرس احتل دولة من الدول يسوم أهلها العذاب، ولكن هو التصرف الرحيم من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا أجمعين، ولا يخفى على أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب بني عامر جميعاً بتساهله وتسامحه مع سهيل بن عمرو زعيم بني عامر.