دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا في جنوب شرق مكة كما ذكرنا عند منطقة اسمها الخندمة، حين تزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش وقاتلوا في هذه المنطقة، والذي دخل من الجنوب من المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقاً قديماً وحميماً لـ عكرمة ولـ صفوان إلا أنه كان متجرداً تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديداً رائعاً تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفار، وهرب صفوان بن أمية وكذلك عكرمة بن أبي جهل هربا من مكة بكاملها، وخمدت المقاومة تماماً في مكة المكرمة، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر صلى الله عليه وسلم ليدخلها آمناً مطمئناً عزيزاً.
لعل هذه هي أعظم لحظات السيرة النبوية فهي اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله عز وجل، ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد، أين أولئك الساخرون من الإسلام؟ أين أولئك المتهكمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين كانوا يقولون: شاعر، أو مجنون؟ أين الزعماء والأسياد والأشراف والقواد؟ أين الجبابرة والطواغيت؟ لا تسمع منهم اليوم إلا همساً.
لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند دخوله مكة كان يستعرض شريطاً كاملاً للذكريات، ومر على ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح، تذكر هنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، ذكريات (25) سنة كاملة، ذكريات الجهاد والصبر حتى الوفاة.
هنا مرت لحظات سعيدة جداً على المسلمين، لحظة يوم أسلم الصديق ويوم أسلم عمر ويوم أسلم عثمان وعلي وحمزة وأبو عبيدة وسعد ذكريات جميلة، هنا دار الأرقم بكل ذكرياته الجميلة أيضاً.
وهنا في نفس الوقت الصبر والكفاح والثبات، فمن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضاً إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في هجرة صعبة في مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعاً قد جندوا أنفسهم لحربه أو لقتله، يلتفت إلى مكة حال خروجه منها ويقول: (والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت) وبعدها تمر الأيام وتمر السنين، أحداث ساخنة، ومواقف صعبة، جهاد ومشقة، وعناء وكفاح، لكن ما غابت مكة عن الذهن لحظة واحدة، وهنا يتحقق حلم السنين، أصبح الأمل واقعاً، وصار الحلم حقيقة، وهناك أناس كثيرون يظنون أن هذا أمر مستحيل، لكن تبقى الحقيقة الواضحة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] إنه نصر الله وتدبير الله وتوفيق الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك تمام الإدراك؛ لذلك لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعاً رأسه متعالياً على غيره، ناسباً النصر لنفسه، حاشا لله، ولكنه دخل مكة دخول المتواضعين لله عز وجل الخاشعين له، خفض رأسه صلى الله عليه وسلم في تواضع حتى كادت أن تمس ظهر دابته، دخل وهو يتلو سورة النصر، فيذكر نفسه ويذكر المؤمنين حوله ويذكر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل ويعلم الناس جميعاً أن النصر من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا قضى شيئاً فلا راد لقضائه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
وصار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة، ليبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة وربانية التشريع، وليرسّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يوماً تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام ويظهر فيه الدين، ويعز الله عز وجل فيه المؤمنين، ويذل فيه المشركين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]