أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق، وكما ذكرنا أن هذا الخروج كان في رمضان سنة (8 هـ)، وصام الجيش معظم الطريق حتى وصلوا إلى كراع الغميم، وكراع الغميم تقريباً على بعد (60) كيلو أو أكثر من مكة المكرمة، وفي كراع الغميم جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ورفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، وهذا في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
نجد في هذا الموقف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مقارنة سريعة هامة بين الصوم وبين الجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة جداً، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، كذلك الجهاد عبادة عظيمة جداً، وهو ذروة سنام الإسلام، وصرّح الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا يعدله شيء أيضاً كما في البخاري عن أبي هريرة، فهو في هذا الموقف يقارن بين عبادتين عظيمتين، وهذا الموقف كان محيّراً للبعض إلا أن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك دعا بقدح فيه ماء فشرب وهو صائم، مع أن الموقف كان بعد صلاة العصر، ولم يبق إلا قليل ويدخل وقت المغرب، لكن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين: أولاً: هناك ما يسمى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم الآن، وأشياء أخرى من الممكن أن تؤخر إلى وقت لاحق، فتأخير الصيام لا يضر، لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، لكن الجهاد الآن لا يؤخر، وخاصة أن الجيش على بعد (60) كيلو من مكة المكرمة.
ثانياً: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، هذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، لكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، وواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ثالثاً: أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فحسب، ومع ذلك ترى الكثير من المسلمين يقصر التزامه بالإسلام على الصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك من الشعائر، نقول: الإسلام دين جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، ونحن رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يؤخر عبادة وشعيرة هامة جداً ليقوم بأمر آخر من الإسلام أيضاً في صالح الأمة ألا وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد من الإسلام، والسياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام وهكذا؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام أفطر وأمر الناس بالإفطار وهذا بعد وقت صلاة العصر، بل إن في صحيح مسلم: (أن بعض الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بعض الصحابة لم يفطروا مع الناس)، ماذا علّق صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة أولئك العصاة) مع أنهم لم يرتكبوا ذنباً، لكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة لا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فسمّاهم صلى الله عليه وسلم العصاة، مع أنهم يصومون رمضان في رمضان، وهذا يحتاج إلى تدبر عميق وفقه؛ لكي نستطيع فهم الأبعاد التربوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.