ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته أولاً إلى زوجته الصالحة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من آمن على ظهر الأرض، وكانت الوحيدة المتابعة لكل أحداث الوحي بكل تفاصيله منذ نزل جبريل في المرة الأولى بقول الله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، بل نستطيع أن نقول: إنها آمنت قبل التصريح بالرسالة، قبل: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، قالت: (كلا، والله لا يخزيك الله أبداً).
فالسيدة خديجة أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، فكان هذا الحب هو الطريق لتصديق العقل.
أيضاً الحب وحده لا يكفي، لابد أن يقتنع العقل، قالت: (إنك لتصل الرحم وتحمل الكل) إلى آخر الصفات، وهذه الصفات لا يمكن أن تكون في كذاب أو منافق، كذلك لا يمكن أن ربنا سبحانه وتعالى يخزي مثل هذا.
ثم الكلام الذي قاله الملك ليس من كلام العرب ولا من كلام البشر، مع أن الحروف عربية.
إذاً: هناك طاقة فوق إمكانيات البشر، وهذه الطاقة لابد أن تكون لله عز وجل، كل هذا دار في ذهن السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، لكن لا أعتقد أبداً أنه كان سيدور بهذه السلاسة وهذه السرعة لو كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مشاكل وكراهية مستحكمة.
إذاً: الحب أولاً ثم الحجة ثانياً.
ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحب الرجال إلى قلبه، لو كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه فإن أبا بكر الصديق هو أحب الرجال إلى رسول صلى الله عليه وسلم، كما صرح هو بذلك لما سئل عن أحب الرجال إليه؟ فقال: أبو بكر بدون تردد، وسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يخيب ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نور الله عز وجل قلبه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة -أي: تردد ونظر- إلا أبا بكر ما إن ذكرته له حتى آمن وما تردد فيه)، لم يفعل أحد من البشر مثل هذا الفعل إلا هو والسيدة خديجة رضي الله عنها ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
فسرعة إيمان أبي بكر يحتاج إلى دراسة، نقول: إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب الناس إلى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما يختار من الآراء ما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غياب أحدهما عن الآخر، ولم يمش على الأرض من هو خير من الصديق إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
كان بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم توافق عجيب في أمور كثيرة من أمور الأخلاق، أشهرها: الصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كذلك المروءة وخدمة الناس والتواضع والكرم والعفة، والبعد عن أماكن الفساد، كل هذه الأشياء أدت إلى سرعة إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وكان بينهما حب كبير لدرجة أن زيد بن حارثة من بين كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه ابنه، وكان معروفاً بين الناس بـ زيد بن محمد وزيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، بل فضله على أبيه وعمه، وكان لهذا قصة هي: أن زيد بن حارثة خُطف من أبيه من قبيلة بعيدة عن مكة وبيع في سوق الرقيق، واشتراه حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها ثم أهداه لها، ولما تزوجت الرسول صلى الله عليه وسلم أهدته زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرت الأيام وعلم حارثة بن شرحبيل أن ابنه في مكة، فجاء إليها هو وعم زيد، وقالا للرسول صلى الله عليه وسلم: (خذ ما شئت من المال نظير أن ترد زيداً إلينا، فقال لهما: وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟ فقالا: وما هو؟ قال: أدعوه لكما فخيراه بيني وبينكما، فإن اختاركما فهو لكما بغير مال، وإن اختارني فما أنا بالذي يرغب عمن يختاره)، هذه الأخلاق كلها كانت قبل البعثة، صنع على عين الله عز وجل، صنع ليكون نبياً صلى الله عليه وسلم، عندها قال الرجلان: (لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف، فجيء بـ زيد وقيل له: من هذان؟ قال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا عمي كعب، فقال صلى الله عليه وسلم: قد خيرتك إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أق