السنة الرابعة: وهذه السنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، لكن التدبر في هذه السنة سيثبت إن شاء الله عكس ذلك.
فالسنة الرابعة أن فترة الإعداد طويلة جداً للدولة الإسلامية؛ لأجل أن نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، لكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة جداً.
فقد كان الإعداد لفتح مكة والتمكين كما في السيرة مدة (21) سنة كاملة، فأول البعثة كان في رمضان قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، والفتح كان في رمضان بعد الهجرة بثمان سنين.
وفترة التمكين سنتان ونصف، من فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حدثت الردة، وانتهى التمكين.
فترة الإعداد (21) سنة من أصل (23) سنة، سنتان ونصف، يعني (89%) من فترة السيرة، ولتكن (90%)، وفترة التمكين (10%) فقط.
ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً.
هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً.
وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة.
هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر.
وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان.
هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟ هذا من أجل سببين رئيسيين: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة.
إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان.
السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه.
في زمن التمكين يرى الناس الدولة قوية وممكنة في الأرض، فينضم الجميع إلى هذه الدولة، المقتنع وغير المقتنع بالمبادئ الإسلامية، هذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت، وتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة جداً، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع للتربية كما خضع لها الأولون، وإنما أخذت قسطاً يسيراً جداً من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعاً فيختفي التمكين، وانظر إلى أعداد المسلمين بعد إعداد (19) سنة، فقد كان العدد (1400) مؤمن في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر زاد العدد، وفي فتح مكة بعد أقل من سنتين من الصلح وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف رجل، وبعد فتح مكة بسنة واحدة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، العشرة آلاف الذين أتوا عام الفتح أصبحوا (30000) مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف منهم تقريباً (5000) أو (6000) أسلموا قبل الفتح بشهور وأيام قليلة، وبعد الفتح اجتمع (20000) بعد سنة واحدة، وبعد سنة أخرى من سنة (9) هـ إلى سنة (10) هـ سنرى أن الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وصل عددهم تقريباً مائة وثلاثين ألفاً في بعض التقديرات، يعني: زدنا مائة ألف مسلم في السنة العاشرة من الهجرة النبوية.
هذه أعداد ضخمة جداً التحقت بالدولة الإسلامية وهم في محاضن بعيدة جداً عن المدينة المنورة، وليست هناك الطاقة الكاملة الكافية لتربية هؤلاء، فعندما حصلت أزمة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حصلت ردة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، والردة وقعت عند الذين لم يتربوا، ولا يوجد أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ارتد، بل كلهم ثبت على الإسلام، لكن عموم الناس الذين دخلوا في وقت الفتح ووقت التمكين هؤلاء لم يُعطوا القسط الكافي من التربية، لذلك وقت التمكين عادة ما يكون قصيراً، ووقت الإعداد يكون طويلاً.
هل هذا الكلام محبط؟ هل يمكن أن يقول أحد المسلمين بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نمكن إلا فترة قصيرة فقط