من سيختار النبي صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش الهام الذي سيخرج لحرب قبيلة كبيرة قوية وهي قبيلة قضاعة، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة شمال الجزيرة العربية، وليس لها مدد، ولها ظروف صعبة كظروف موقعة مؤتة؟ اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش شخصية قد يعجز الكثيرون عن اختيارها، وعندما تأتي لتحلل هذا الاختيار ستجد أنه اختيار في منتهى الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وعمرو بن العاص لم يكن قد مر على إسلامه إلا شهور قليلة جداً، فقد أسلم في صفر سنة (8) هـ، لم يمر على إسلامه سوى ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم اختير ليكون قائداً للجيش الهام في حرب عظيمة للمسلمين.
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لتأليف قلبه؛ لأن عمرو بن العاص شخصية محورية جداً في مكة المكرمة، وانضمامه إلى المعسكر المسلم وإلى جيش المدينة المنورة يعتبر إضافة كبيرة جداً لا بد أن يحافظ عليها المسلمون قدر المستطاع, وعمرو بن العاص له تاريخ طويل جداً في العداء مع المسلمين، من أوائل أيام مكة، ومروراً بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين من هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك في مراحل متعددة من القتال التي دارت مع المسلمين، وعمرو بن العاص في ذلك الوقت شخصية ليست فقط كبيرة في المقام، ولكن أيضاً كبيرة في السن، فقد كان عمره وقت إسلامه (57) سنة، أي: أنها شخصية من كبار قادة قريش ومن دهاة العرب، فلا بد أن يُحفظ له مكانه في داخل الدولة الإسلامية؛ لكي يستمر في المسيرة معها.
ورأينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظّم من قدر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما استلم القيادة في غزوة مؤتة، وسماه سيف الله المسلول، ورُفع قدره جداً في الدولة الإسلامية، ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل موقعة مؤتة، وله دور وضع في الدولة الإسلامية، والناس بصفة عامة تنظر إليه على أنه قد حقق نصراً مهيباً، وأصبحت له مكانة جميلة تثبت أقدامه إن شاء الله.
كذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، يعطيه قيادة جيش فيحقق انتصاراً فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثم تثبت أقدامه، ليس هذا فقط، فإن هناك شيئاً مهماً جداً يعبر عن مدى عمق النظرة للرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن أم عمرو بن العاص من قبيلة قضاعة، وذهاب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وأمه من نفس القبيلة يُعطي بعداً هاماً جداً في القتال، فقد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وهم عندما يجدون على رأس الجيش الذي أتى أن أمه منهم قد يحدث بينهم حوار ومفاوضات للقبول بفكرة الإسلام، ولا يأخذهم الكبر والعناد والفجور في الخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كان دائماً يقرب قلوب الناس للإسلام، وكان إسلام الناس أحب إليه من أموالهم.
وأيضاً كون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من قضاعة فمن المؤكد أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو أعرف بديار قضاعة ومساكن قضاعة، والطرق والدروب التي تؤدي إلى هناك أكثر من بقية الصحابة.
فاختياره عسكرياً؛ لأنه عبقرية عسكرية، وقيادة فذة، واختياره دعوياً مهم جداً؛ لأنه سوف يؤلّف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي نفس الوقت هو أعلم بالطريق من غيره.
إذاً: كل هذه الأمور تجعل اختيار عمرو بن العاص لهذه المهمة خاصة في منتهى الحكمة.
روى ابن حبان والحاكم وأحمد بسند صحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة فأرسل إليه ثم قال له: (خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، قال عمرو بن العاص: فأتيته وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فصعّد فيّ النظر ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلّمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة) أي: أنك ستذهب إلى هذه الموقعة وبإذن الله ستنتصر فيها، وستكون لك غنائم فيكثر مالك، وتقسم أربعة أخماس الغنائم على الجيش، فقال عمرو بن العاص واستمع إلى كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو يقول هذه الكلمات أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان الكلام غير سليم فإن الوحي سوف يخبره بذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل منه هذه الكلمات، قال عمرو: (يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وه