لنا مع هذا الموقف وقفات: هل كانت موقعة مؤتة هزيمة للمسلمين أم كانت نصراً للمسلمين؟ هل كانت مجرد انسحاب ناجح؛ لكونه أفضل النتائج التي يمكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف، أم أنها كانت نصراً جليلاً للمسلمين وهزيمة منكرة للرومان؟ تباينت آراء المحللين القدامى والمحدثين حول هذه المعركة، تباينت تبايناً عظيماً فعلاً، فمنهم من رأى أن المعركة كانت انتصاراً للمسلمين، وممن يرى هذا الرأي موسى بن عقبة والزهري والواقدي، ورجح ذلك البيهقي وابن كثير فهؤلاء جميعاً رأوا أن المسلمين انتصروا انتصاراً جليلاً في موقعة مؤتة.
ومن العلماء من عدها هزيمة منكرة للمسلمين كما أشار إلى ذلك ابن سعد في طبقاته.
ومنهم من قال: إن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني: هناك تعادل بين الكفتين، مال إلى هذا ابن إسحاق في سيرته، وابن القيم في زاد المعاد.
والحقيقة أني أميل وبشدة مع الرأي الأول القائل بأن هذا كان انتصاراً حقيقياً للمسلمين، وعندي على هذا الكلام أدلة كثيرة: أولاً: ما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه يحكي عن معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر أصحابه عن نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، قال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب.
يقول أنس: وعيناه تذرفان) يعني: يبكي صلى الله عليه وسلم على استشهاد الثلاثة، وكانوا جميعاً من أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه)، وكلمة: (حتى فتح الله عليه) هذه لا تحتمل معاني كثيرة، وإنما تحمل معنى النصر والفتح والعلو، فالله عز وجل لا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين فتح الله عليهم بالنصر.
ثم قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أن ينسحب وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ لأن خالد بن الوليد كان واقعياً جداً إلى أبعد درجة، فهو علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا فتحاً من الله عز وجل على المسلمين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار لقال كلمة تدل على هذا المعنى، كأن يقول: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات، وهو صلى الله عليه وسلم أبلغ البشر وأوتي جوامع الكلام، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تماماً كما تم في أرض مؤتة: (حتى فتح الله عليه).
الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وكذلك النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً فاشهدوا له بالشهادة واستغفروا له، فاستغفر الناس له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى أصيب شهيداً فاستغفروا له) هذه الرواية صحيحة تشهد لـ عبد الله بن رواحة بالثبات وتشهد له بالشهادة.
(فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه وقال: اللهم هو سيف من سيوفك فانصره)، يقول عبد الرحمن بن مهدي أحد رواة الحديث وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل: فانتصر به.
هذا دعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام لسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب، وهذا الحديث من معجزاته، فهو يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكره صلى الله عليه وسلم للصحابة، فهو ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته صلى الله عليه وسلم والحجة الدائمة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحصل النصر، وهذا صريح في هذه الرواية وهي صحيحة.
الدليل الثالث: كم عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟ رقم لا يتصوره أحد مطلقاً، إنهم اثنا عشر شهيداً فقط، منهم الأمراء الثلاثة، وفي حرب مع مائتي ألف ولم يقتل ويستشهد سوى اثني عشر رجلاً، دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ لأن الجيش المهزوم مستحيل أن يقتل منه غير اثني عشر رجلاً فقط، بينما خسر الرومان أضعاف ذلك، ويكفي مَنْ قتلهم خالد بن الوليد