معركة مؤتة

هي بحق أشرس موقعة في السيرة النبوية، أمواج بشرية هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساق إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في واجهة أقوى قوة في العالم آنذاك، وارتفعت صيحات التكبير من المسلمين.

وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه واندفع كالسهم رضي الله عنه وأرضاه صوب الجيوش الرومانية، ولم يشهد المسلمون قتالاً مثله قبل ذلك، وارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات، ولم يعد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، لا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعاً إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة المسلمين، وسالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مراراً ومراراً، كانت فعلاً ملحمة بكل المقاييس، وسقط أول شهداء المسلمين البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مقبلاً غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة جداً، بدأت مع أول أيام نزول الوحي، فهو من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وصحب الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف، والله كأني أراه وهو يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه صلى الله عليه وسلم، حتى شج رأسه وسالت دماؤه غزيرة رضي الله عنه وأرضاه، هجرة وجهاد ودعوة وعبادة وقيادة وتجرد.

رأيناه في العام السادس من الهجرة يقود السرايا تلو السرايا في جرأة عجيبة وثبات ناجح، وكأنه يعد لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيداً مقبلاً غير مدبر، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق.

وحمل الراية بطل جديد، إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا البطل الشاب المجاهد كان عمره أربعين سنة، وكان قد قضى معظم هذه السنوات في الإسلام، أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجراً بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ورجع من الحبشة إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع، وعند وصوله وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إلى خيبر فخرج من فوره إلى خيبر ليجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إنها رغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية.

لقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل رضي الله عنه قتالاً لم ير مثله، وأكثر الطعن في الرومان، ثم تكالبوا عليه، وكان يحمل راية المسلمين كما ذكرنا، فقطعوا يمينه رضي الله عنه وأرضاه فحمل الراية بشماله لكي لا تسقط، فقطعوا شماله رضي الله عنه، فاحتضنها بعضديه قبل أن يسقط شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث ألا وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه.

يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما جاء في البخاري: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين ما بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، أي: ليس منها شيء في ظهره.

فهو لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه وأرضاه، بل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها بل يطير.

روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً في الجنة، مضرجة قوادمه بالدماء، يطير في الجنة).

وروى البخاري أيضاً: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيا ابن جعفر رضي الله عنه قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.

رضي الله عنه وأرضاه، فربنا سبحانه وتعالى أبدل جعفر بن أبي طالب جناحاً بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيل الله عز وجل.

إنها حياة جهادية طويلة جداً والمكافأة الجنة.

ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه وبلسانه، وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يقتل شهيداً في أرض الشام، حمل الراية وقاتل قتالاً عظيماً مجيداً حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.

ما تردد أبداً كما أشيع عنه رضي الله عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعاً للقتال، كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟ كيف يتردد من شهد له صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، ومن دعا له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالثبات؟ وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامة أهل السير، لم ينقله الكثير من كتاب السيرة، لم ينقله موسى بن عقبة في مغازيه، ولم ينقله ا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015