وصل الجيش الإسلامي الكبير إلى منطقة معان بالأردن في رحلة طويلة شاقة، ووصل هناك في جمادى الأولى سنة ثمان، وعند وصول الجيش الإسلامي وجد هناك في انتظاره مفاجأة غير متوقعة، وجد أن الدولة الرومانية قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، فقد أعدت جيشاً هائلاً عدده مائة ألف مقاتل، وأعد العرب النصارى الموالين للرومان مائة ألف مقاتل أيضاً، فصار مجموع جيوش العدو مائتي ألف مقاتل، هذا رقم مهول لا يتصور، وخاصة أن الجيش الإسلامي ثلاثة آلاف مقاتل فقط، فماذا سيفعل أمام كل هذه الجيوش الجرارة؟ وتجمع الرومان بهذه الأعداد الهائلة أمر عجيب حقاً، ليس العجيب في أن الرومان كثرة، نحن تعودنا على هذه الأرقام في حروب الرومان، لكن العجب أن يجمع الرومان هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط.
ومن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدوا عدداً يكافئ أي إعداد للمسلمين.
أو أنهم أدركوا فعلاً عدد المسلمين وأرادوا استئصال المسلمين تماماً؛ حتى لا تقوم لهم قائمة، لا مجرد هزيمة، بل استئصال.
أو لكون هرقل يدرك أنه يحارب نبياً فأراد أن يعد قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن.
المهم أن الدولة الرومانية جهزت مائة ألف واستعانت بمائة ألف من العرب النصارى؛ لتحارب ثلاثة آلاف مقاتل مسلم، وإذا كان هذا التجمع غريباً من الرومان فهو كذلك أيضاً غريب من العرب؛ لأن العرب لم يكن من عادتهم التجمع والاتحاد، بل كان يحارب بعضهم بعضاً، لم تجمعهم قضية مطلقة من قبل ومع ذلك جمعوا مائة ألف في موقعة واحدة.
هذا الموقف له تفسير واحد، وهذا التفسير هو إشارة هرقل لهم بالنهوض معهم؛ لأن الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذناً من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهب الجميع لتنفيذ الأمر كأنهم إلى نصب يوفضون.
لقد تجمع في أرض معان مائتا ألف مقاتل غالبهم من النصارى سواء من الرومان أو من العرب ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي من المدينة المنورة، وإزاء هذا الوضع الخطير عقد المسلمون مجلساً استشارياً، مثل عادتهم دائماً، وبدءوا في تبادل الرأي، وخرجوا بثلاثة آراء: الرأي الأول: أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة يخبرونه بأن الأعداد ضخمة وهائلة، إما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بقتال، أو يأمرهم بانسحاب، لكن هذا الرأي لم يكن واقعياً؛ لأن المسافة بين معان وبين المدينة لا تقطع إلا في أسبوعين على الأقل ذهاباً فقط، معنى هذا: أن الجيش سينتظر شهراً كاملاً قبل أخذ القرار، وهذا مستحيل، وإن قبل المسلمون بذلك لم تقبل قوات التحالف الرومانية العربية.
الرأي الثاني: أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قائد الجيوش ينسحب بالجيش ولا يدخل في أي قتال، وقال أصحاب هذا الرأي لـ زيد بن حارثة: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء.
فأصحاب هذا الفريق يرون أن هذه الحرب مهلكة ولا داعي لدخولها.
الرأي الثالث: الدخول في المعركة دون تردد، ومواجهة هذه الأعداد المهولة في الحرب الفاصلة.
وكان صاحب هذا الرأي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام وقال في منتهى الوضوح: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة.
يعني: ما تخافون منه الموت وهو الذي نريده، وهو الذي خرجنا من أجله.
قال: إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة.
كان كلامه في منتهى الوضوح، فقد لخص في كلمته القصيرة جداً أساسيات الجهاد في سبيل الله، فالجيش المسلم المؤمن جيش يطلب الشهادة ويحرص عليها، والنصر لا يأتي بعدد ولا عدة، إنما يأتي من عند الله عز وجل، وليس معنى هذا أن يترك المسلمون الإعداد، لا، ولكن يجب أن يفعلوا ما عليهم والله عز وجل بعد ذلك ينصرهم، وفعلاً قام المسلمون وأعدوا ما عليهم في حدود الطاقة، أعدوا جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا شيء كبير جداً بالنسبة لهم.
ونستنبط من كلام عبد الله بن رواحة أن العدة الرئيسة للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، قال: وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.
وأيضاً نأخذ من كلامه أن المعركة عند المسلمين لا تخلو من أمرين: إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحاً مطروحاً عند المسلمين، بل هو مرفوض.
ولما قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات قال الناس جميعاً: صدق -والله- ابن رواحة.
يعني: اجتمعوا جميعاً على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة.
لا شك أن إقدام الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية لهو خير دليل على أنهم طلاب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعاً، وأن شجاعتهم بالغة، وأن قوتهم