الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان، وقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ليوقف خطورة غطفان ويؤمن جانبها عدة سرايا قرابة ست سرايا، ثم خرج إليها في غزوة ذات الرقاع، وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة سبع، يعني: كانت بداية فتح خيبر في أول محرم سنة سبع، واستمر أكثر من شهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أواخر شهر صفر سنة سبع أو أوائل ربيع الأول سنة سبع إلى غطفان، فهو خرج إلى غطفان بمجرد أن عاد من فتح خيبر، كان في حركة دائبة وفي جهاد مستمر في سبيل الله، وذكرت بعض كتب السير أن غزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ثبت في البخاري أنه شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى الأشعري باتفاق لم يأت إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر، فمن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع تمت في السنة السابعة من الهجرة.
وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا).
نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.
ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.
فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، و