بقي لنا في موضوع هذه المراسلات العظيمة أن ننظر نظرة تحليلية في السفراء الكرام الذين اختارهم الرسول عليه الصلاة والسلام لإيصال الرسائل إلى زعماء وأمراء العالم.
سنلاحظ عدة ملاحظات جميلة جداً: أولاً: هؤلاء الرسل جميعاً عندما تنظر إلى أسمائهم تجد أنهم من قبائل مختلفة، فـ عمرو بن أمية من بني ضمرة، وهو الذي أرسل إلى النجاشي.
والعلاء بن الحضرمي من حضرموت اليمن، وأرسل إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين.
وعبد الله بن حذافة من بني سهم، وأرسل إلى كسرى فارس.
ودحية بن خليفة من بني كلب، وأرسل إلى قيصر الروم.
وحاطب بن أبي بلتعة من بني لخم، وأرسل إلى المقوقس في مصر.
وسليط بن عمرو من بني عامر، وأرسل إلى هوذة بن علي باليمامة.
وشجاع بن وهب من بني أسد، وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.
وهذا الاختلاف في القبائل لا شك أنه إشارة واضحة جداً من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كل المسلمين سواء في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبلية أبداً، بل هي دعوة تضم بين طياتها أفراداً من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمثابة الصورة الجديدة المرجوة لهذه الأمة، ووحدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط هو رباط العقيدة الإسلامية.
إذاً: هذه كانت ملحوظة في منتهى الأهمية.
الملحوظة الثانية: أن قريشاً لم يمثلها في هذه السفارات إلا صحابي واحد فقط، وهو عبد الله بن حذافة السهمي القرشي رضي الله عنه، وبقية السفراء جميعاً ليسوا من قريش.
وهذه إشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأصلح هو الذي يعطى العمل ويكلف بالمهمة، بغض النظر عن النسب والمكانة العائلية والقبلية وما إلى ذلك، مع أن الجميع يعرف أن قريشاً هي أعلى العرب نسباً، وقد يقول البعض: لعله من الأصلح والأفضل أن نجعل كل السفراء من قريش؛ لأجل رفع قيمتهم عند زعماء العالم، لكن مثل هذا سيترك رسالة عكسية سلبية وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحاً، الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.
الملحوظة الثالثة: أن التمثيل القرشي لم يكن فقط يسيراً في هؤلاء السفراء، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدماً تماماً، وهذه إشارة واضحة جداً من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب أبداً أن تعطى المناصب الهامة إلا للأكفاء بغض النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد، فالقائد المتجرد حقاً هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.
إذاً: هذه كانت الملحوظة الثالثة.
الملحوظة الرابعة في هؤلاء السفراء الكرام: أنهم جميعاً من المهاجرين لا يوجد فيهم أنصاري واحد، وهذه الملحوظة ليست خاصة بهؤلاء السفراء، لا، سنجدها تقريباً في كل مواطن السيرة، قلما تقلد أنصاري منصباً هاماً أو قيادياً في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصاري رمزاً في المسلمين يعطي ولا يأخذ، وأنتم تعرفون أهم سمة تميز الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: أنها صفة الإيثار، كما وصفهم الله تعالى وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9]، لابد أن يبقى مثلاً يؤثر على نفسه وهو راض مطمئن.
والأنصار رضي الله عنهم أجمعين ما نالوا من الدنيا شيئاً يذكر، لا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كانوا مثلاً رائعاً للعطاء بلا حدود؛ للإيثار دون تردد، فمن الأفضل أن يظلوا بهذه الصفة دائماً؛ من أجل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم السفارة ولا القيادة، جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عن أسيد بن حضير أخبره: (أن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ستلقون -يخاطب الأنصار عامة- بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
يعني: أمر الأنصار ألا يبحثوا أبداً على الإمارة؛ حتى يبقى دائماً مثل الإيثار واضحاً نقياً عندهم رضي الله عنهم.
وليس معنى هذا أن المهاجرين كانوا يتشوفون للإمارة أو يرغبون في السفارة أبداً، بل على العكس المهاجرون باعوا الدنيا تماماً، وهذه السفارات على شرفها خطيرة جداً، وقد يكون ثمنها حياة السفير، وسنرى هذا الكلام فعلاً بعد ذلك مع الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه عندما يقتل على يد شرحبيل بن عمرو الغساني، وسيكون قتله سبباً في غزوة مؤتة، وسنرى هذا في الدروس القادمة.
إذاً: نخلص من ذلك الأمر: أن الأنصار لا