وتعالوا نأخذ رسالة كمثال من أجل أن نرى هذا الوضوح، ولكي نفهم ماذا تعني رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك أو زعيم من زعماء العالم.
؟ لندرس رسالة هرقل قيصر الروم، والرسالة جاءت في البخاري، وذكرت رواية البخاري لها؛ حتى لا يستغرب السامع مضمون هذه الرسالة، واعلم أن هذه الرسالة رسالة من رئيس دولة صغيرة جديدة هي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير (3000) جندي، وعمرها لا يتجاوز (6) سنوات، وأسلحتها بسيطة، وعلاقاتها في العالم محدودة جداً، ومع ذلك كله أعلم أن هذه الرسالة ترسل إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية تسيطر تقريباً على نصف أوروبا الشرقية، غير تركيا والشام بكامله، وغير مصر وليبيا، وجيوشها تقدر بالملايين بلا أي مبالغة، وأسلحتهم متطورة جداً، وتاريخها في الأرض له أكثر من (1000) سنة، ضع كل هذه الأمور في ذهنك وأنت تقرأ أو تسمع كتاب وخطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيصر الروم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) (الأريسيين) يعني: الفلاحين، يعني: الشعب، ثم كتب آية من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: ({قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).
رسالة فيها الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب، وهذا الخطاب يحتاج إلى محاضرات لكي نحلله وندرسه ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، لكن نحن هنا سنشير إلى بعض الدروس الهامة إشارة سريعة.
من هذه الدروس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب.
فهو أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل، وهذا الكلام خطير جداً في زمانهم، قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، ثم دعاه مباشرة إلى الدخول في الإسلام، فقال: (أسلم تسلم)، حتى لم يعرض الطلب بصيغة فيها تردد أو صيغة فيها عرض يقبل أو لا يقبل وإنما قال: (أسلم تسلم).
وأيضاً من الدروس: أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بل بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له المكانة، حيث قال: (إلى هرقل عظيم الروم).
وأيضاً من الدروس: أنه جمع في مهارة عجيبة بين الترغيب والترهيب، بقوله له: (أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) يعني: فيها نوع من الترغيب، ثم يقول له وهو يهدد بوضوح: (فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) والكلام كله عبارة عن عدة أسطر قليلة جداً.
وأيضاً من الدروس: حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، أتى بآية تقرب كل أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، من أجل ذلك يمكن أن يفتح عقله للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جداً بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.
هكذا كان الخطاب لـ هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب لكل زعماء العالم، فالخطابات تقريباً مشابهة لهذا مع اختلافات قليلة جداً في الألفاظ حسب البلد المرسل إليها والدين الذي يدينون به، ومع وحدة الخطاب تقريباً لكل مكان من السبعة الأماكن التي تكلمنا عليها إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة جداً، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الرد، بينما بلغت بعضها أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبين هذا وذاك كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة.