جاء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مهاجراً إلى الله ورسوله رجل اسمه أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بصير من ثقيف، لكنه كان يعيش في داخل مكة المكرمة حليفاً لقريش، وأبو بصير أسلم بعد صلح الحديبية أو قبيل صلح الحديبية، وهرب من مكة المكرمة ووصل إلى المدينة المنورة، وطلب اللجوء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمجرد أن خرج من مكة علمت قريش بخروجه فأرسلوا رجلين وراءه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا: هذا داخل في بند المعاهدة، المعاهدة تقول: إنه من أتى إليكم من أهل مكة مسلماً فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إلى المشركين، وهذا يجب أن ترده، هذا موقف صعب جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الموقف بنفس العقل الذي تعامل به مع موقف أبي جندل قبل ذلك، فأعاد أبا بصير إلى الرجلين، وقبل صلى الله عليه وسلم أن يعود مرة ثانية إلى مكة مع مدى المأساة التي كان يشعر بها، لكن هذه معاهدة، ورجع أبو بصير مع الرجلين، وعند ذي الحليفة جلس الثلاثة ليستريحوا قليلاً في طريق السفر، فقام أبو بصير وأخذ سيف أحد المشركين وقتل به أحدهما، وهرب المشرك الثاني جهة المدينة المنورة؛ لأنه سيجد العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام من بعيد قال: (لقد رأى هذا ذعراً) يعني: هذا الرجل خاف من شيء خطير جداً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتل والله صاحبي، وإني لمقتول) يعني: أبو بصير قتل صاحبي وسيلحقني بعد قليل، فجاء أبو بصير يجري خلف هذا المشرك، ووصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم)، يعني: أنت عملت الذي عليك، وفيت بالعهد وأرجعتني إلى المشركين، لكن أنا هربت من المشركين، فالآن أنا لست داخلاً في دولتك، أنا لست فرداً من أفراد المدينة المنورة، أنا لا ينطبق علي الآن العهد، قد أوفى الله ذمتك، فلما سمع منه هذه الكلمات؛ قال عليه الصلاة والسلام كلمة عجيبة، قال: (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، فقوله: (ويل أمه) هذه كلمة تقال عند المدح، يعني: هذا الرجل فعل أمراً عظيماً، ما كان يتصور أحد أن يأتي هذا الفعل منه، (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، يعني: هذا سيؤجج الحرب في المنطقة، لو كان معه أحد يشاركه في ذلك.
وفي هذا إشارة واضحة لـ أبي بصير أن: استعن بمن معك من المستضعفين المسلمين، فأنت وحدك لن تعمل شيئاً، لكن اجعل قوتك مع المسلمين لتقدروا على فعل شيء، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير مرة ثانية.
فخرج أبو بصير هارباً بنفسه خارج المدينة المنورة، وقعد على طريق القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام، وكلما مرت عليه قافلة اعترض طريقها يقتل منها من استطاع قتله ويأخذ من غنائمها ما استطاع، وعلم المسلمون المستضعفون في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بمكان أبي بصير، فهربوا إلى أبي بصير، وبدأ أبو بصير رضي الله عنه يكون عصابة من الرجال، حتى صارت مجموعة كبيرة من الرجال تعترض طريق القوافل المكية، وهذا الفعل أحدث أزمة كبيرة جداً في مكة، مما جعلهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناشدونه الرحم ويطلبون منه أن يضم أبا بصير وأصحابه إلى المدينة المنورة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية: أن يرد من جاء مسلماً إلى مكة، بل يقبل المسلمين من مكة ولا يعيدهم إليها مرة أخرى، وهذا هو البند الذي كان مشكلة عند الصحابة، ففي أيام قليلة بعد صلح الحديبية يلغى هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين، وأصبحت فتحاً مبيناً حقيقياً للمسلمين.