بعد تمام صلح الحديبية رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معسكره في الحديبية ليعد العدة للعودة إلى المدينة المنورة مرة ثانية، ثم بعد ذلك بعام يأتي إلى مكة المكرمة من جديد للعمرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في كل هذه الرحلة وكل هذه المحاورات كان محرماً، فقد أحرم من ذي الحليفة كما ذكرنا قبل ذلك، وجاء ملبياً حتى وصل إلى الحديبية، فمنع هناك، فهو في هذا المكان عند الحديبية أحصر صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة المكرمة، فانطبق عليه حكم المحصر عن العمرة، يعني: أنه نوى عمرة ولم يستطع أن يصل إلى مكة المكرمة لأي سبب من الأسباب، لذلك قرر صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالنحر والحلق في هذا المكان؛ ليتحلل من إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن هذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم هو مستحب وليس فرضاً على المسلمين، لكن عند الإحصار لابد له أن ينحر هذا الهدي الذي وهبه لله عز وجل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة جميعاً بالنحر، قال لهم: (قوموا فانحروا)، وهذا أمر واضح جداً، لكن رد الفعل كان غريباً جداً، يقول الراوي: (فوالله ما قام منهم أحد) والرسول عليه الصلاة والسلام كرر الأمر مرة ثانية وقال: (قوموا فانحروا.
فلم يقم أحد، فكرر الثالثة: قوموا فانحروا، فلم يقم منهم أحد)، ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كان يقدر الحالة النفسية التي عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم مع طاعتهم له التي وصفها عروة بن مسعود قبل هذه المعاهدة بساعات قليلة جداً، فقد وصف حالة الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم في تفانيهم في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم في هذا الموقف لا يستطيعون أن يقوموا بالنحر والحلق، لأن معنى النحر والحلق أنهم تحللوا من العمرة، ومعنى تحللهم من العمرة أنهم راجعون إلى المدينة المنورة، وهم إلى هذه اللحظة ما زال لديهم أمل في أن يدخلوا مكة المكرمة ويعتمروا كما كانوا يرغبون، فهم غير قادرين على أن ينفذوا هذا الأمر بالذات، أمر النحر والحلق، وموقف أبي جندل زاد المأساة عند الصحابة، والقضية عندهم قضية خطيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يشعر بما يشعر به الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وليس معنى هذا أن يعذر الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم معذورون وليسوا مخطئين، بل هذا خطأ وسنتحدث عنه -إن شاء الله- بالتفصيل عند الحديث عن أخطاء المؤمنين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع الموقف بمنتهى الحكمة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم إلى خيمته وهو حزين جداً ولم يعنف الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم؛ لأنه يرى ما بهم من أزمة.
فالصحابة إذا كانوا غير راضين بإقرار هذه المعاهدة فالبديل عن هذه المعاهدة هو الحرب، وهم كانوا مستعدين أن يحاربوا ويقاتلوا إلى الموت كما ذكرنا في الدرس السابق، فهم قد بايعوا على عدم الفرار، فلو لم يتم هذا الصلح فستكون النتيجة القتال، قد تذهب فيه أرواحهم جميعاً، فحزن الصحابة يدل على مدى تجردهم وحبهم للموت في سبيل الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام يدرك كل هذه المشاعر، فلذلك قدر موقف الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل إلى خيمته وكانت معه في هذه الرحلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها (فلما دخل عليها ورأت ما به من الحزن سألته، فذكر لها ما لاقى من الناس، فقالت: يا رسول الله! أتحب ذلك -يعني: أن ينحروا ويحلقوا-؟ فقال: نعم، قالت: اخرج) انتبه إلى هذه النصيحة الجميلة جداً من أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وانتبه إلى تشاور المصطفى صلى الله عليه وسلم مع زوجته في قضية من أخطر قضايا المسلمين، لم يذهب للتشاور مع أبي بكر أو مع عمر أو مع غيرهما، لكنه ذهب إلى زوجته وتحدث معها في قضية تهز كيان الدولة الإسلامية بكاملها، واستمع إلى رأيها، وكان رأيها حكيماً جداً، أخرج المسلمين من الأزمة، ماذا قالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها؟ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخرج ثم لا تكلم أحداً حتى تنحر بُدُنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام صلى الله عليه وسلم فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك)، نحر البدن ودعا الحالق فحلق له، فالرسول عليه الصلاة والسلام فعل أمراً جميلاً جداً بنصيحة السيدة أم سلمة، فلما رأى الصحابة ذلك الأمر قاموا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، قاموا وبدءوا في النحر، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.
يعني: كاد بعضهم أن يصيب الآخر من شدة الحزن والغم الذي كان يشعر به، لكن في النهاية استجاب الجميع، ونحروا وحلقوا.
ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن قدم جملاً يعرفه الجميع لينحره مع الناس، هذا الجمل هو جمل أبي جهل، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذه من غنائم بدر، وأتى به إلى هذا المك