نحتاج إلى أن نقف وقفات مع هذه البيعة العظيمة: بيعة الرضوان.
أولاً: هذه البيعة فيها خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، كل شيء في حياتي لله عز وجل إلى لحظة الموت، أنا في سبيل الله عز وجل، طاعة كاملة لله ولرسوله، فأمر هذه البيعة صعب، فهؤلاء المسلمون جاءوا إلى مكة للعمرة بسلاح المسافر فقط، ولا مدد لهم من المدينة؛ لأن المدينة تبعد عن مكة قرابة (500) كيلو، ومن الطبيعي إذا قاتلوا المشركين في هذا المكان فإن المسلمين قد يقتلون؛ لأنهم يقاتلون جيشاً بعدة وعتاد وعلى بعد خطوات من المدد، وليست قريشاً فقط، ولكن معها قبائل الأحابيش الحليفة لها، لكن مع ذلك لم يفكر واحد من المسلمين في أسرته، في أولاده، في زوجته، في تجارته، في أعماله، في حياته، لم يقل أحد منهم: ظروفي لا تسمح أبداً، بل لم يقم أحدهم بهذه البيعة إحراجاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إحراجاً من المسلمين، بل فعلوها جميعاً راغبين صادقين، وهذا كلام رب العالمين في قرآنه الكريم سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، أي: اطلع الله عز وجل على قلوب كل من بايع، فعلم سبحانه وتعالى أن هذه القلوب جميعاً قلوب مؤمنة مخلصة، من الفتح المبين الذي ذكره الله عز وجل في بداية السورة التي تحدثت عن صلح الحديبية وهي سورة الفتح، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فكون رب العالمين يصرح بالرضا عن مجموعة كبيرة عددها (1400) شخص وهم ما زالوا أحياء على وجه الأرض هذا من الفتح المبين، وأن تصل مجموعة من البشر إلى هذا الرقي وهذا الإخلاص وهذا الفقه والفهم والعمل بهذه الصورة التي ترضي رب العالمين سبحانه وتعالى رضاءً تاماً يكتبه في كتابه نقرؤه إلى يوم القيامة هذا من الفتح المبين، فهذه البيعة لها مكانتها، ولها قيمتها في الميزان الإسلامي، وظل هؤلاء عند جميع علماء الأمة من أعظم المسلمين درجة وإلى يوم القيامة، وهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم الحديبية فقال لهم: أنتم اليوم خير أهل الأرض)، وهم (1400) صحابي.
إذاً: أول شيء: أنه ظهر في هذه البيعة التضحية والبذل والعطاء الكامل من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه.
ثانياً: هذا الموقف الذي أعلن فيه المسلمون رغبتهم في الموت هز مكة تماماً من داخلها، فمن يستطيع أن يقاتل قوماً يطلبون الموت؟ بماذا ستخوفهم؟ ستقتلهم، فهم الذين يريدون أن يموتوا، فقد بايعوا على أن يموتوا، بايعوا على ألا يفروا حتى النهاية، ولم يكن معهم إلا سلاح بسيط، ومع ذلك بايعوا على الموت.
إذاً: هذا الموقف هز مكة تماماً، وجعلها تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعود إلى المدينة بأي ثمن، حتى وإن كان في ذلك حط من كرامة قريش، وهذا ما سنراه بعد ذلك في بنود المعاهدة.
لقد عبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد هذا الحدث بسنوات عن صفات الجيش المنصور بكلمات قليلة ذكرها لـ هرمز قائد الفرس عند بداية فتح فارس قال: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
يعني: الجيش الذي يحب الموت من المستحيل أن يهزم، وهذا درس من أعظم الدروس؛ من أجل ذلك قررت قريش إبرام الصلح بكل ما فيه.
ثالثاً: قبل أن نخوض في بنود الصلح هناك شيء غريب جداً وهو أنه لم يصب المسلمين سوء عندما أخذوا قرار الموت، بينما في أحد عندما أخذوا قرار الفرار، استشهد منهم سبعون، وكان عددهم في أحد (700) وفي الحديبية (1400) لم يصب منهم أحد بسوء.
وهذه كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي كلمة جميلة جداً يقول فيها: احرص على الموت توهب لك الحياة.
يعني: الجيش الذي يريد أن يموت يهب الله له الحياة والنصر والتمكين والسيادة، والجيش الذي يريد أن يعيش أي عيشة حتى لو كانت رخيصة أو ذليلة أو تعيسة، المهم أن يعيش فهذا جيش يكتب عليه الموت.
رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى صرح برضاه عن أولئك الذين قاموا بالبيعة، مع أنهم ما زالوا على قيد الحياة، ومن الممكن أن يرتكبوا بعد ذلك ذنوباً أو أخطاءً أو كذا أو كذا من الأمور، ومع ذلك ربنا سبحانه وتعالى صرح أنه قد رضي عنهم، والله سبحانه وتعالى يعلم الغيب، ويعلم أن هؤلاء سيفعلون كذا وكذا، وأنه من المؤكد أن يكون لهم أخطاء؛ لأنهم من البشر، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن يوجد معنى في غاية الأهمية ينبغي أن نفهمه من هذا الكلام: وهو أن موقفاً واحداً في حياتك لصالح المسلمين ولصالح الأمة يكون من الثقل بحيث أنه لا