لقد أرسلت قريش ثلاثة رسل حتى الآن: أرسلت في البداية بديل بن ورقاء الخزاعي من خزاعة، وأرسلت بعد ذلك الحليس بن علقمة من بني الحارث بن كنانة، وأرسلت بعد ذلك عروة بن مسعود الثقفي من ثقيف، وهؤلاء الثلاثة من خارج قريش، أرسلتهم محاولة للتوسط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في كل مرة يبلغهم بشيء، لكي يوصلوه إلى مكة المكرمة، لكن إلى الآن لم تستمع قريش مباشرة إلى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هؤلاء الرسل لم يبلغوا الأمر بصورة مرضية؛ إما لشيء في صدورهم، أو سوء فهم لقضية من القضايا؛ فلذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل رسولاً من المسلمين، يستطيع بواسطته أن يصل بالمعاني التي يقتنع بها المسلمون ويطالبون بها، يوصلها بوضوح إلى زعماء قريش؛ ليتجنب فتنة ليس لها أصل، فالرسول صلى الله عليه وسلم فكر في إرسال سفير ورسول، فمن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يرسله؟ أول من أراد أن يرسله إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وعمر بن الخطاب كما تعلمون رجل قوي مفاوض له حكمة وقوة ورأي سديد جداً، فهو في كثير من المرات ينزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه وأرضاه، فيما عرف بموافقات عمر رضي الله عنه، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يختار عمر بن الخطاب أنه كان في جاهليته سفيراً لقريش.
وكانت الزعامة في قريش موزعة على عشر قبائل، كل قبيلة عليها دور من الأدوار في قيادة مكة، والدور الموكل إلى بني عدي -التي هي قبيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- كان دور السفارة في قريش، والذي كان يقوم بهذا الدور من قبيلة بني عدي هو عمر بن الخطاب نفسه، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبعث رسولاً قديماً من رسل قريش تعترف به كسفير، فهذا في غاية الأهمية وله عمق إستراتيجي واضح، فهذه كانت وجهة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن على غير المعتاد اعتذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أن الأمر ليس وحياً، وإنما هو رأي من الرسول عليه الصلاة والسلام له أن يراجع فيه ويعرض رأيه، فعرض عمر بن الخطاب رأيه في منتهى الوضوح ومنتهى الصراحة وقال: (يا رسول الله! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت) يعني: أنا من قبيلة ضعيفة، قبيلة بني عدي بطن ضعيف من بطون قريش، لو حصل وقتل عمر بن الخطاب فلن يتحرك له أحد، ثم قال: (فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها).
وعثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة شريفة لها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم يقول: (وإنه -أي: عثمان بن عفان - مبلغ ما أردت) يعني: الذي تريده سيتحقق على يد عثمان ما هو علي يدي أنا، وواضح من كلام عمر بن الخطاب ومن سيرته قبل هذا الأمر وبعد هذا الأمر أنه لا يخشى الموت، ولم يقل هذا الكلام خوفاً من قريش أو من غيرها، بل كان على استعداد دائم أن يبذل روحه في سبيل الله عز وجل، لكنه يريد أن تتم المهمة، وهذه المهمة مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه سيؤديها؛ لأن عمر ليست له منعة في داخل مكة المكرمة وهو يريد أن تتم هذه المهمة؛ لذلك ذكر اسم عثمان بن عفان، ولماذا عثمان بن عفان من بين (1400) صحابي؟ هذا اختيار في منتهى الحكمة فعلاً؛ لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب، فـ عثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية تقدر على حماية عثمان بن عفان، وإجارة بني أمية تمضي على كل قريش، كذلك أبو بكر الصديق نفسه لو ذهب فإنه لا يؤدي مثل ما يؤدي عثمان بن عفان؛ لأن قبيلة أبي بكر الصديق قبيلة ضعيفة، التي هي قبيلة بني تيم.
إذاً: كان اختيار عمر موفقاً لـ عثمان جداً هذا أولاً.
ثانياً: عثمان بن عفان مشهور بالحلم والحكمة، فعنده القدرة على أن يتفاوض ويؤدي المهمة كما ينبغي أن تؤدى.
ثالثاً: عثمان بن عفان رجل محبوب جداً في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريماً واسع الكرم، يعطي عطاء بلا حدود، وكل أهل مكة قبل ذلك استفادوا منه، فهو عند أهل مكة محبوب، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع، وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متزوجاً في البداية من السيدة رقية، فلما ماتت تزوج أم ك