لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا.
إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود: (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش.
فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـ الصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه.
فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأج