نقف على واقعية المنهج النبوي، ما معنى واقعية المنهج النبوي؟ قد يقول قائل: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفرون الخندق ولا يحاربون؟
صلى الله عليه وسلم أن الإسلام دين واقعي، مع القناعة التامة بأن الله سبحانه وتعالى معنا إذا كنا معه، وسينصرنا إن نصرناه، إلا أننا نأخذ بكل الأسباب، فـ (10000) مقاتل مشرك ضد (3000) مقاتل مسلم، وهم جميع أهل المدينة من الرجال، هو لقاء غير متكافئ، خاصة أن هؤلاء العشرة آلاف يمكن أن يزيدوا، ويمكن أن يضموا إليهم يهود خيبر، ويمكن أن تأتي قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم.
فاحتمال هذه الأحداث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة أن يختاروا محاولة تجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة ممتازة.
لم نهرب من أرض الموقعة ولم نتنازل عن شيء، وسيكون العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلاً بعيداً عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين، وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وأسرع النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ مجموعة من الصحابة وتفقد أطراف المدينة؛ لكي يرى المكان المناسب لحفر الخندق، فهو يأخذ بكل الأسباب، ووجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن شرق المدينة وغرب المدينة لها حماية طبيعية من المرتفعات الشرقية والغربية، وأيضاً جنوب المدينة محمي بغابات طبيعية وأحراش، بقيت منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي، ومنطقة الجنوب الشرقي فيها ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش ولا إجارتها، ولكن يقضي أيضاً بالدفاع المشترك عن المدينة المنورة إذا داهمها عدو، وأياً كان هذا العدو، ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم هذا مهم جداً؛ لأن جيوش المشركين لو دخلت من عندهم فهذا معناه إنهاء الوجود الإسلامي تماماً، واستئصال شعب المسلمين بكامله.
إذاً: منطقة الشمال مفتوحة؛ ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بحفر الخندق في شمال المدينة المنورة؛ ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار سهلاً وسريعاً فالتنفيذ قد يكون مستحيلاً ليس صعباً فقط، فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل بأي حال من الأحوال، مشروع جبار بمعنى الكلمة، الخندق عمقه خمسة أمتار، وعرضه خمسة أمتار في أقل التقديرات، وبعض التقديرات تصل إلى عشرة أو اثني عشر متراً، وطوله اثنا عشر كيلو متر، وهذه المعلومات أخذت من الموقع الرسمي للمدينة المنورة على الإنترنت (موقع مساحة المدينة المنورة)، هذه الأبعاد معناها: أن الأرض التي يراد حفرها لا بد أن يكون حجمها ثلاثمائة ألف متر مكعب، وهذا رقم مهول جداً، ولقد جلست مع أكثر من مهندس لنتصور الجهد الذي بُذل في هذا، ففي هذا الوقت قدرة العامل على الحفر في اليوم الواحد لا يتجاوز خمسة أمتار مكعبة ويكون الحفر في أرض رملية سهلة وبعمق متر واحد فقط، وكلما كان العمق أكثر قلّت قدرة العامل على الحفر؛ لأن عليه أن يحفر في أرض أصعب، ويخرج التراب وينقله بعيداً، ثم يرجع فينزل مرة أخرى، أو تكون هناك فرق كثيرة لحمل ونقل الأتربة الهائلة التي تخرج من الحجم الضخم الذي سنحفره.
كان تعداد الصحابة جميعهم في المدينة (3000) ولم يقم كلهم بالحفر، فهناك من هم مشغولون بالحراسة، وهناك من يخدم في أمور الطعام والشراب، ومنهم من يكون مريضاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لو أن كلهم شاركوا في الحفر فإنه من المستحيل أن تنتهي عملية الحفر للخندق في هذا الزمن القياسي، كان حفر الخندق في أسبوعين فقط، فلو أن كل صحابي سوف يشتغل (16) ساعة يومياً فإنه سوف يضاعف الشغل أيضاً، وهذا صعب جداً، وكل هذا مع افتراض أن الأرض رملية سهلة، فلو تخيلت أن الأرض صخرية فإنها تحتاج في زمننا هذا إلى معدات خاصة وأجهزة حفر متطورة، عندئذ ستعرف كيف كان هذا العمل جباراً، لو أضفت إلى هذا أننا نحفر لعمق خمسة أمتار وليس متراً واحداً، ولو أضفت إلى هذا أن نقل كميات التراب إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضاً مسئولية هؤلاء (3000) صحابي الذين يقومون بالحفر، ولو أضفت أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفت نقص خبرة المسلمين في هذا العمل، فهم أول مرة في حياتهم يحفرون خندقاً، ولو أضفت كثرة الأعداد العاملة وتوزيعها على (12) كيلو متر، كيف يمكن أن تدير فرقاً بهذه الضخامة؟ وإذا أضفت إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف شديدة الصعوبة من جوع وبرد، وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة.
لو أضفت كل هذا فإنك ستعرف أن هذا عمل جبار، وهذا العمل في زماننا يحتاج لكي يتم في أسبوعين إلى أكثر من مائتي لودر، وشواكيش إلكترونية، وعشرات السيارات للنقل كي تأخذ الأتربة، وكذلك إدارة هندسية كاملة، ويحتاج إلى مجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر.
وإذا أردت أن تعرف صعوبة هذا المشروع قارنه مثلاً بمشروع الأنفاق، وانظر كيف كان صعباً، وقد أخذنا فيه عشر سنين، وتعطلت الدنيا في