وأيضاً من صفات هذا الجيش: أنه كان كفؤاً وبقدر المسئولية فعلاً، فقد تكون القضية سليمة، لكن المحامي فاشل؛ ولذلك نخسر القضية، وربما تكون الغاية نبيلة والمدافع عنها ضعيفاً، فلا نصل إلى الغاية، فالمسألة مسألة أمانة، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسأله عن الساعة فقال له: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه مشكلة ضخمة تواجهها الأمة الإسلامية الآن، فالأمر في هذا العصر لا يوسد إلى أهله، بل يوسد إلى من عنده واسطة أو قريب أو صاحب أو ابن فلان أو فلان، فالأمر يجب أن يوسد إلى من يستطيع فعلاً أن يؤديه على أفضل وجه، وهذا لا بد أن يجمع بين الصفتين، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، والقوي: الكفء في مجال العمل فإن كان الفرد في الجيش لابد أن يكون عسكرياً جيداً، وإن كان في الزراعة فلا بد أن يكون فاهماً في أمور الزراعة، كذلك في التجارة وفي الصناعة وفي التعليم وفي الإدارة، وفي أي مجال يكون محترفاً في مجاله فعلاً، بل يكون مبتكراً ومخترعاً ومتحمساً للإبداع.
والأمين: هو الذي يعلم أن الله عز وجل يراقبه؛ فيرعى الأمانة، ولا يغش ولا يدلس ولا يضيع وقتاً ولا يبخل برأي ولا يدخر معونة، يكون أميناً كما وصفه الله عز وجل.
وفي موقعة بدر وسد الأمر إلى أهله، والكفاءة رأيناها في كل المقاتلين، احترافية في الأداء، مهارة في المناورة، قوة في النزال، دقة رأي وبعد نظرة، عسكريون على أعلى مستوى وفي منتهى الأمانة، يعرفون أن الله ينظر إليهم في كل لحظة؛ لأن إيمانهم عالٍ جداً، وأخلاقهم لا تسمح بأي تفريط؛ لهذا السبب رفض الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر أن يستعين بمشرك.
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى بدر، ويذكر أن هذا الرجل له جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه ونجدته، ومع احتياج المسلمين إليه، إلا أنه قد يفتقر إلى الأمانة، فهو لا يؤمن بأن الله عز وجل يراقبه فقد يخدع المسلمين، فرفض صلى الله عليه وسلم الاستعانة بأي مشرك في غزوة بدر؛ فهذه قاعدة: ألا يستعين المسلمون بالمشركين، لها بعض الاستثناءات، وهي موجودة في كتب الفقه، لكن الأصل ألا يستعين المسلمون بمشرك ولو كان كفؤاً.
وأكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق إلى بدر، وجاء إليه نفس الرجل بعد قليل، وقال له كما قال أول مرة؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، ثم جاء له مرة ثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال له الرجل: (نعم.
أؤمن بالله ورسوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: فانطلق)، فهذا معنى في غاية الأهمية: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء، وقد يكون الرجل أميناً وتقياً وورعاً، لكنه ليس كفئاً؛ هذا أيضاً لا ينفع.
رد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر بعض المسلمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن قدرتهم القتالية ضعيفة، مع علمه التام بأمانتهم، ورغبتهم الصادقة في القتال، ورد مجموعة من صغار السن؛ لضعف بنيتهم، وضآلة أجسامهم، كـ عبد الله بن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وغيرهما من الصغار، وفي نفس الوقت قبل بعض صغار السن الآخرين؛ لكفاءتهم العسكرية والجسدية، كـ عمير بن أبي وقاص، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، كانوا صغاراً في السن، لكن عندهم قدرة قتالية، فقبلهم صلى الله عليه وسلم.
فلابد من كفاءة وأمانة، ومن دون هاتين الاثنتين لا يوجد نصر.