من سنة الله سبحانه وتعالى أنه قبل الصدامات الكبرى التي تقع بين الحق والباطل لابد أن تمر أمة المسلمين ببعض الشدائد والمصاعب والاختبارات التي تمثل امتحاناً صعباً لكل المسلمين.
فمن السهل أن تقول: أنا مؤمن، لكن الصادقين قليل.
قال الله عز وجل يصف إيمان الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، فلا بد أن يكون هناك اختبار صعب يحدد فعلاً من الصادق ومن الكاذب ومن المؤمن ومن المنافق؟ من هذه الاختبارات التي تمت في شهر شعبان اختبار فرض القتال، فالذي يقبل بمشقة فرض القتال ويستمر في الطريق هو صادق الإيمان، وأما الذي سيجزع ويتثاقل إلى الأرض فصف المؤمنين في غنى عنه ولا يحتاجون إليه، بل من الأفضل أن يترك الصف من الآن قبل أن تشتد الأزمة.
إذاً: فرض القتال كان أحد الاختبارات قبل الصدام المتوقع، ولكن لم يكن هذا هو الاختبار الوحيد، كان هناك اختبارات ثانية حصلت قبل هذا الاختبار وفي نفس شهر شعبان، إعداد واضح من رب العالمين سبحانه وتعالى لمجموعة من المسلمين، سوف تغير بعد ذلك من خارطة العالم بكامله.
فمن الاختبارات المهمة التي حصلت قبل فرض القتال وفي شهر شعبان اختباران في غاية الأهمية: اختبار فرض الزكاة واختبار فرض صيام رمضان.
كانت الزكاة مفروضة على المسلمين في فترة مكة، لكن لم تكن بالنصاب المعروف وبالقدر الذي نعرفه، بل كانت متروكة لكل مسلم بقدر ما يستطيع دفعه، أما الآن فقد فرض على المسلمين أن يدفعوا قدراً معيناً مقداره 2.
5% إذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول.
وقيمة الزكاة وإن كانت قليلة إلا أن الإنسان بطبعه مجبول على حب المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، والإنسان بطبعه لا يحب القيود خاصة القيود المادية، وهكذا لن يقبل بفرض الزكاة إلا المؤمن حقاً.
كذلك اختبار الصيام، فإن الصوم المفروض على المسلمين حتى هذه اللحظة لم يكن إلا يوماً واحداً في السنة هو يوم عاشوراء، أما الآن فقد فرض عليهم صيام شهر كامل في السنة، وهو شهر رمضان، وهذا الفرض نزل في شهر شعبان، وعلى ذلك فإن المسلمين سيصومون شهر رمضان دون تهيئة نفسية مسبقة، وهذا شاق عليهم خاصة في هذه البيئة الصحراوية، فلن يثبت في هذا الاختبار إلا صادق الإيمان.
إذاً: الاختبار الأول: الزكاة، الاختبار الثاني: الصيام، الاختبار الثالث: فرض القتال.
بقي هناك اختبار رابع صعب جداً حصل في نصف شهر شعبان، وهو اختبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة.
وكل هذه الاختبارات كانت متتالية، حصلت في خلال أسبوعين من شهر شعبان، والمسلمون قبل هذا الحدث كانوا يصلون في اتجاه بيت المقدس (16) أو (17) شهراً، من أول الهجرة إلى منتصف شعبان من السنة الثانية من الهجرة.
وفي هذا إعلان لعموم الناس أن الرسالة الإسلامية ما هي إلا استكمال لرسالات الأنبياء السابقين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء جاءوا بمنهج واحد ويعبدون إلهاً واحداً، وفي ذلك تقريب لقلوب اليهود من سكان المدينة من الدين الجديد، فهم يشتركون مع المسلمين في قبلة واحدة، ويعظمون إلهاً واحداً، ويصومون يوماً واحداً.
ثم مرت الأيام والشهور، وظهر للجميع أن اليهود قوم فاسقون، أدركوا الحق واتبعوا غيره؛ لأجل ذلك نزل الوحي من السماء بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وفرض صيام رمضان بدلاً من صيام عاشوراء، وكانت هذه التغييرات تحمل معاني سامية جداً من التميز للأمة الإسلامية، ومن التوجه إلى أشرف بقاع الأرض، ومن مخالفة اليهود الفاسقين، ومن غير ذلك من الأمور العظيمة، وفوق هذا كله كان فيها إشارة لطيفة إلى أن الله عز وجل سيفتح مكة للمسلمين في يوم ما؛ لأنه ليس من المعقول أن توجد قبلة قوم في بلد أعدائهم.
وبعد مشروعية استقبال الكعبة حصلت مشكلة صعبة، فاليهود كعادتهم حاولوا إثارة الفتنة وإشاعة الشبهات، واجتهدوا في ذلك تمام الاجتهاد، إذ صاروا يتهكمون من هذا التحويل للقبلة، ويقولون: إن المسلمين مترددون بين قبلتين، وقالوا: إذا اتجهتم إلى القبلة الجديدة فما شأن القبلة القديمة التي كنتم تصلون إليها؟ والذين كانوا يصلون باتجاه القبلة القديمة ثم ماتوا ماذا يفعل الله عز وجل بصلاتهم، فقد كانوا مخطئين في الاتجاه، كـ أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه، والبراء بن معرور؟ وهكذا يحاول اليهود أن يثيروا الشبهات والفتن دائماً، فأنزل الله عز وجل يرد عليهم ويصفهم بالسفهاء، ويبين المفهوم الدقيق الذي يجب أن يدركه كل مؤمن، وهو أن الأمر كله لله عز وجل، يحكم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، هو المتصرف في خلقه وملكوته، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا