النقطة الخامسة: إن شهوة الانتقام عند المظلوم قد تتفاقم وتخرج عن الإطار المسموح به في الشرع، ونحن لا يجوز لنا أبداً أن نرفع ظلماً وقع علينا بإيقاع ظلم على آخرين.
لذلك يأتي الضابط المهم جداً للقتال في الإسلام، وهو ضابط ثابت مستمر غير منسوخ، معمول به في كل حروب المسلمين إلى يوم القيامة: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
فالله عز وجل لا يحب المعتدي حتى ولو كان من المسلمين، والعدل قانون لا ينصلح حال الأرض إلا به، والعدل لابد أن يكون مع الجميع حتى مع الأعداء المكروهين إلى النفس، يقول تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2] أي: حتى مع الصد عن المسجد الحرام لا تعتدوا، وصور الاعتداء كثيرة، منها الغدر والخيانة وتعذيب الأسرى، ومنها التمثيل بالجثث، والقتال لحظ النفس وليس لله عز وجل، ومنها قتال من لا يجب أن يقاتل، ومنها التجاوز في التدمير والتخريب، ومنها إيقاع الظلم ضد أي إنسان كان، بل إن منها إيقاع الظلم بالحيوان أو بالنبات.
فانظروا إلى التعاليم النبوية التي تضع ضوابط القتال في الإسلام حتى نعرف قبل أن نحمل السيف ونحارب أعداءنا كيف نحارب بأخلاق الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
فهذه نصائح تقال لجيش خرج يحارب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه: (اعزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا - لا تغلوا من الغنيمة - ولا تغدروا، ولا تمثلوا - أي لا تمثلوا بجثة قتيل من الأعداء- ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع المعتكفون للعبادة).
هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين، وليس فيها إبادة جماعية، ولا تدمير عشوائي، ليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما أو ناجازاكي أو فيتنام أو كوريا أو ألمانيا أو غيرها من البلدان، ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب أو من بعيد.
إن الجميل جداً في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط كلها والتشريعات الأخلاقية العظيمة لم تأت نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع للقتال، نزلت بهذا التكامل والسمو والعظمة، بما لا يدع أي مجال للشك أن هذا المنهج رباني وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقاً بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية التي يعتريها الكثير من النقص في كل بند من بنودها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هناك تشريعات أخرى كثيرة الوقت لا يتسع، لكن الذي أريد أن أقوله وأختم به: إن هذه الآيات لما نزلت كان وقعها شديداً جداً على قريش واليهود وعلى كل الجزيرة العربية، وقد ترقب الجميع أن تدور حرب هائلة بين المسلمين وبين الكافرين.
ترى ما هي مقدمات هذه الحرب؟ وكيف ستكون؟ وما هو رد فعل المسلمين والكافرين لهذه المعركة الهائلة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدروس القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.