نقف وقفة مع موافقة اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة، مع أنهم قوة لا يستهان بها، فاليهود أعداد كبيرة، ولديهم سلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال، وأشياء كثيرة جداً وقوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء ولم يعترف بها أحد بعد، فلماذا قبل اليهود بهذه الدنية في هذه المعاهدة؟ ولماذا سلموا رقابهم هكذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مع قوتهم؟ أولاً: من طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13].
وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].
فالجبن الشديد شيء داخلي فطري في اليهود، وهذا لابد من معرفته جيداً في تعاملنا مع اليهود.
ثانياً: لو أن هذا الجبن الشديد قوبل بجبن أكبر، فإن الكفة ستكون في صالح اليهود، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقف في صلابة وقوة وبأس واضح، والمؤمنون معه على قلب رجل واحد، وما ذلك إلا لوحدتهم.
فالقوة التي وقف بها الرسول عليه الصلاة والسلام هو الثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم أوس وخزرج ومهاجرين من مكة المكرمة وغيرهم، وكل هؤلاء يسمعون ويطيعون لقائد واحد بمنهج واحد، وكل هذا كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود.
ثالثاً: الفرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم على اليهود وكأنهم فريق واحد، لكن بني قينقاع غير بني النضير وغير بني قريظة وكل فرقة لها مع الفرقة الأخرى عداوات، قال الله في كتابه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14]، وفي ظاهر الأمر تظن أن دولة اليهود موحدة، لكن الله يقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
فبنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج، وعندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تقوم حرب بين بني قريظة وبين بني قينقاع وبني النضير وهكذا.
إذاً: بينهم شقاق وخلاف كبير جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك الأمر، وقال هذه الكلمات في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبداً على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.
رابعاً: المصالح، فاليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظاً على مصالحهم، هم لا يريدون الدخول في مواجهة مع الأوس والخزرج؛ وذلك لأن الأوس والخزرج هم الذين يشترون منهم ما يبيعونه، فلو حصل حرب مع الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، والتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، فهم يحرفون الكتاب ويخونون العهود ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله عز وجل يقول عنهم في كتابه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161].
خامساً: الرهبة والجلال الذي يقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا شيء ليس له أدلة في يدك، بل هو شيء رباني وجندي من جنود الرحمن، قال الله عز وجل: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يتحقق الإيمان في قلوب المؤمنين، فالله عز وجل وعد أن ينصر من نصره: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وقال صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، قبل أن يلتقي الرسول عليه الصلاة والسلام مع عدوه بشهر يكون العدو مرعوباً، مع أن الفارق في القوة كبير جداً، وهو لصالح العدو، هناك فارق في القوى المادية والأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ والسلاح، أمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يضعه في قلوبهم: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26].
إذاً: لهذه الأسباب جلس اليهود على طاولة المفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ودب الرعب في قلوبهم، وقبلوا بهذه البنود.
في أزمان أخرى إذا رأيت بأس اليهود وقوتهم على المسلمين فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم سبحانه وتعالى؛ ولذلك هانوا على الله عز وجل، فهانوا بعد ذلك على اليهود وعلى غيرهم من الناس، تجد خمسة ملايين يهودي يملون قراراتهم على مليار وأكثر من المسلمين، وهذا ميزان مقلوب, وليس هذا لقوة اليهود، وإنما هو لضعف المسلمين، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم؛ ليحكموا حكماً صحيحاً في ضوء الشرع الحكيم.