كل هذه المحاولات الفاشلة من قريش لاستئصال خضراء المسلمين لم تمنع قريشاً من استمرار المحاولة والكيد والتدبير.
لما لاقت قريش هذه الصلابة في المقاومة؛ وهذه العبقرية في الأداء الإسلامي، وهذه الاحتراسية الدقيقة في بناء الأمم، لم تجد أمامها إلا أن تستخدم سلاح البطش والقوة التي اعتادت عليه قبل ذلك، والذي اعتاد عليه عموم الجبابرة والمجرمين والمتكبرين في الأرض، قررت القيام بغارة ليلية مباغتة على المدينة المنورة، ضربةً خاطفةً لعلهم يقتلون رجلاً أو ينهبون مالاً، أو يروعون امرأة أو طفلاً أو شيخاً.
هذه الغارة كانت بعد حوالي سنة تقريباً من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بقيادة أحد المشركين، كان اسمه كرز بن جابر الفهري، والذي أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه وصار من الصحابة، أغار على المدينة ليلاً، وسرق بعضاً من ماشيتها إبل وغنم وبقر، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في إثره حتى يرجع الماشية، لكن أفلت كرز بما نهب، وهنا تبين لنا محاولات قريش.
كانت هذه هي محاولات قريش للصد عن سبيل الله، وكانت هذه محاولات قبيلة كبرى لاستئصال جذور حركة إسلامية ما زالت ناشئة في طور البناء، ولأن قريشاً القبيلة الكبرى تعلم أن هذه الحركة الإسلامية البسيطة تمتلك مقومات بناء دولة عظمى، فإنها سارعت لهدم البناء في أول مراحله، حتى لا تغامر بترك هذا البناء ينمو ثم يبتلعها بعد ذلك.
فعلت ذلك قريش، وكذلك تفعل الدول الكبرى الآن، وما زال المسلمون يتعجبون: لماذا دولة عملاقة ضخمة تهتم بأمر مجموعة من المسلمين البسطاء الفقراء الذين يعيشون على بقعة قد لا ترى على خريطة العالم؟ والسر أنهم يقرءون التاريخ، أعداؤنا يقرءون التاريخ ونحن نغفل عن قراءته كثيراً، قرأ أعداؤنا كثيراً في التاريخ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، وعلموا أن المجموعة القليلة من المسلمين إذا عاشت بشرع الله عز وجل، وطبقت قوانين الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، فإنها ما تلبث أن تنمو وتقوى، ثم تمكن في الأرض، ويصبح تمكينها في الأرض خارجاً عن حدود الاستئصال، بل وتصبح قوتها غير قابلة للهزيمة ما دامت مستمسكة بقانونها دون تحريف أو تبديل أو تكاسل أو إهمال.
وهذا الأمر تكرر في التاريخ، ولا زال يتكرر إلى الآن.
أذكر لكم مشكلة تؤرقني كثيراً، هذه المشكلة مشكلة السودان، فالسودان أعلنت أنها ستطبق شرع الله عز وجل على بعض الولايات السودانية، ليس تطبيقاً كاملاً في كل السودان، ومع أن هذا التطبيق تطبيق جزئي وليس كلياً، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد، لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، وهذا في عرف الكافرين أمر خطير، وتحركت قوى عظمى ودول كبرى لمنع هذا البلد من تطبيق شرع ربه سبحانه وتعالى.
يتعجب المراقبون لماذا دولة عملاقة مثل: أمريكا، أو دول متقدمة مثل: دول أوروبا الغربية أو الإسكندنافية أو دولة قوية كإسرائيل تهتم بشأن هذا البلد الفقير البسيط الذي يصارع بضراوة من أجل الحياة؟! فالمجاعات في السودان تقتل الآلاف المؤلفة، فلماذا هذا الزخم الإعلامي الكبير، وهذا التفخيم والتضخيم لأمر قضية السودان؟ ظهرت كلمة الإسلام في السودان، ولو قدر لهذا البلد أن ينمو فقد يغير من خريطة العالم، لا يغير فقط الإمكانات الاقتصادية المتوقعة ولا البترول ولا المزارع، لكن يرفع من شأن البشر الذين يحملون الإسلام في قلوبهم؛ لذلك فإن عموم أعداء الأمة أدركوا هذا الأمر جيداً وللأسف لم يدركه الكثير من المسلمين.
أولاً: ماذا فعلوا مع السودان الفقير؟ فعلوا نفس السيناريو الذي فعلته قريش القبيلة العظمى مع دولة المدينة المنورة الناشئة، فقد قاموا بمراسلات لبعض الانفصاليين خاصة من أصحاب الديانات الأخرى؛ للقضاء على الحركة الإسلامية في مهدها، ويا حبذا لو أثيرت فتن طائفية في أرجاء البلاد، وهذا كفعل قريش في مراسلتها مع عبد الله بن أبي ابن سلول، وكلكم ترون هذا الأمر على الشاشات الفضائية.
ثانياً: قاموا بالحرب النفسية على المسلمين في السودان، عن طريق التهديد والوعيد المستمر في وسائل الإعلام وعبر السفارات والأعوان والوسطاء.
ثالثاً: قطع الدول الكبرى لعلاقاتها الدبلوماسية مع السودان، وبذلك انفصلت السودان عن الواقع الذي تعيش فيه، وهذا شيء خطير.
رابعاً: تغيير القوانين والتنكر للأعراف الدولية، وتكوين الأحلاف التي ينكرها القانون الدولي، هذه الأحلاف تقوم بالتأثير على الدول الضعيفة؛ لأجل أخذ قرار يضر بمصلحة دولة أخرى، وهذا يكون عن طريق مال أو عن طريق ضغط عسكري أو عن طريق ضغط سياسي، وأمريكا فعلت ذلك فعلاً ضد السودان، فقد ضغطت على دول كثيرة جداً حتى تمنع السودان من الحصول على مقعد إفريقيا في مجلس الأمن، وأعطوا هذا المقعد لدولة أخرى، مع أن التصويت على المستوى الإفريقي كان لصالح السودان.
خامساً: الحصار الاقتصادي والضغط على الشعب إلى الموت، وما أحداث دارفور منا ببعيد.
سادساً: الغارات المفاجئة الغادرة لا على جيش ولا ع