اكتشف زعماء مكة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا حالة الطوارئ القصوى في مكة، وأخذوا مجموعة من القرارات: القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه، أخذ معه فرقة وذهب إلى بيت الصديق، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها: أين أبوك يا ابنة أبي بكر، قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها.
هذا تجاوز كبير في أعراف مكة، أن رجلاً يضرب امرأة بهذه الصورة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت ويقلبه رأساً على عقب، لم يفكر أن يدخل يبحث على أي دليل، مع خطورة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولماذا لم يدخل؟ تذكروا أن زعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في بيت الصديق؛ لذا يجوز أن يكون في بيت آخر من بيوت أصحابه، من أجل ذلك أخذوا القرار الثاني.
القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فإذا كان ما زال داخل مكة أمسكوا به وهو خارج منها.
القرار الثالث: مطلوب حياً أو ميتاً، إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن، ميزانيات ضخمة تنفق لصد الدعوة، ولوقف الدعوة إلى الله عز وجل.
القرار الرابع: المطاردة، استخدام قصاص الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، وفي الحقيقة أن الكفار كانوا في منتهى الذكاء؛ درسوا كل المخارج بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إحساس بمعية الله في كل خطوة، والصديق لم يكن خائفاً على نفسه، بل خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أن الصديق قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة).
ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور؟ يعني: بعدما قطعوا هذا المشوار الطويل (8) كيلو من الصحراء والجبال والشمس والمشقة، وآثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، كم كانت ستأخذ هذه النظرة لو نظروها؟ لكن (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هناك قصة مشهورة أن العنكبوت نسجت خيطاً كثيفاً على باب الغار، وقال الكفار: لو دخل من ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه القصة ضعيفة من كل طرقها، وإن كان بعض العلماء رفع درجة القصة إلى الحسن لكثرة الطرق، كذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار قصص ضعيفة لا تصح أصلاً، وحتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضاً، وإلا كيف تفسر أن الغار يكون مفتوحاً والآثار وصلت إليه، والكفار لا ينظرون إلى داخله.
هذه معجزة ظاهرة! وليست هي المعجزة الأولى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الأخيرة، فحياته كلها معجزات صلى الله عليه وسلم.
فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه، لكن مازالت المكافأة معلنة مائة ناقة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً.
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره، ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقت