نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر هذه الجريمة، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، والرسول عليه الصلاة والسلام سأله عمن يهاجر معه؟ فقال: أبو بكر الصديق، يعني: صحبة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل، ويا لها من درجة عالية للصديق رضي الله عنه وأرضاه.
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش؛ من أجل ألا يقدم زعماء قريش موعد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك مشكلة أخرى كان يفكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر مباشرة في الموعد الذي أخبره جبريل أن يهاجر فيه، فـ الصديق سيترك كل شيء، ولا يدري متى سيرجع، وقد لا يرجع بالمرة، ويموت في المدينة المنورة، وسيأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عائلته، فهو سيترك بناته وأولاده وأباه وأمه، وهذه تعتبر مشكلة بالنسبة للصديق.
وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: أن قريشاً سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً، فكيف يعطل المطاردة المشركة له؟ كيف يهرب منهم والكفار كلهم يعرفون أنه مسافر إلى المدينة المنورة، ويعرفون الاتجاه الذي يمشي فيه؟ ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، وكأنه مثل البنك بالنسبة لهم، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعاجيب الزمان! المهم أن هذه كانت مشاكل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لابد أن يجد لها حلاً.
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق رضي الله عنه في وقت الظهيرة؛ لأن شوارع مكة في ذلك الوقت تكون خالية، ولن يراه أحد إذا ذهب في هذا الوقت، كما أن الصديق لم يكن معتاداً مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الوقت، فيكون هذا أدعى للتخفي.
شيء آخر فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكلف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين، المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاء المشركون ونظروا يرون شخصاً نائماً ومغطى ببردة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتأخرون في ملاحقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، وبعد أن ينتهي من المهمتين يهاجر إلى المدينة المنورة وحده.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهيرة إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي غطى رأسه ببعض الثياب، ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد، فاستغرب الصديق من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً، في نفس اليوم الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبو بكر، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: (أخرج من عندك، فقال الصديق: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله -يعني: لا تخف منهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج)، يعني: الهجرة.
وانظروا إلى أول رد فعل للصديق رضي الله عنه وأرضاه، أول شيء كان يشغله أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخيل أن يبتعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو للحظات، فقال أبو بكر عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجر: (الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة).
فرح الصديق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة، ولم يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي)، هذا مع الخطورة المعروفة في هذه الرحلة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة الموقف، وأنه سيكون من الم