إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر والأخير من دروس الفترة المكية من السيرة النبوية.
تكلمنا في الدرس الماضي عن بيعة العقبة الثانية التي مهدت لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة بعد ذلك، ورأينا مدى استعداد الأنصار للبذل والعطاء والكفاح والجهاد، وكيف قبلوا بكل الشروط الصعبة لبيعة العقبة الثانية، المهم تمت البيعة العظيمة، وعاد الأنصار إلى بلادهم يثرب أو المدينة المنورة، وبدءوا بترتيب أوضاعهم من أجل استقبال أفواج المهاجرين من مكة، وقد بدأت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة بعد شهر من البيعة، وتكلمنا عن صعوبة الهجرة وتضحياتها، وعن كفاح الصحابة سواء من الرجال أو النساء، فقد كانت معاناة كبيرة وضخمة، لكنها تمت على خير، ووصل المهاجرون إلى البلد العظيم المدينة المنورة.
لم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل واحد منهم له دور مهم في المرحلة القادمة كما سنرى إن شاء الله.
كانت قريش في أزمة كبيرة، ما من يوم يصبحون فيه إلا ويجدون واحداً من المسلمين قد اختفى، أو عائلة مسلمة اختفت، وبعض الأحيان كانوا يجدون فرعاً كاملاً من قبيلة ليس موجوداً، بحيث إن الهجرة كانت تتم بصورة سرية تماماً، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عرف المشركون أن الهجرة كانت إلى المدينة المنورة، ليس فقط من الشك الذي كان في وفد يثرب الذي جاء إلى مكة قبل ذلك في موسم الحج سنة (13) من البعثة، لكن من أخبار مؤكدة أتت إلى قريش من المدينة المنورة عن طريق أعوان وحلفاء لهم تؤكد هجرة المسلمين إلى المدينة، ويؤكد على هذا ما حصل من أبي جهل وأخيه الحارث لأخيهما من الأم عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، كان مسلماً وهاجر إلى المدينة المنورة مثل بقية المهاجرين المسلمين، وعلم أبو جهل بهجرته، فلحقه أبو جهل وابتكر حيلة من أجل أن يعيد عياشاً إلى مكة، فأقنعه بأن أمه مريضة، وأنها تريد أن تراه قبل أن تموت، وفعلاً أخذت عياش الرقة لأمه، وعاد مع الحارث وأبي جهل، وبينما هو في الطريق قيداه بالحبال وأخذاه إلى مكة وهو مقيد، وقالا لأهل مكة: هكذا فافعلوا بسفهائكم، وحبس في مكة لفترة طويلة.
الشاهد من القصة: أن أبا جهل كان يعرف إلى أين يهاجر المسلمون، وأنهم كانوا يذهبون إلى المدينة المنورة.
سبب هذا الأمر قلقاً لقريش؛ لأنها كانت على فقه كامل بخطورة الموقف عليهم لو انتشر الإسلام، من هذه المخاطر: أولاً: أن الذين هاجروا من مكة ليسوا أغراباً عن أهل مكة، بل إن كل واحد من زعماء قريش كان له أخ مهاجر أو ابن أو ابنة، وكل واحد منهم بداخله غيظ كبير على الدين الجديد الذي عرضهم لهذه المشكلة، وكل واحد منهم بداخله كذلك حب فطري لأولاده وأقاربه، ويرى أنهم قد بعدوا عنه، فهذه كانت مشكلة كبيرة، وكان من الصعب أن يقبل بها أهل مكة.
ثانياً: أن دعوة الإسلام لو انتشرت في الجزيرة العربية، فمن الممكن أن تفقد قريش الكثير من مكانتها في الجزيرة، فقد كانت تكسب كثيراً من تجارة الحج إلى مكة، ومن تجارة بيع الأصنام، نعم، دين الإسلام يشجع الحج إلى مكة، لكن تجارة الأصنام وتجارة الخمور والزنا والربا ستقف، مصالح كثيرة جداً ستقف لأهل مكة، وكلها سوف تتعطل لو انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية.
ثالثاً: كان المشركون يفهمون جيداً أن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة من أجل قضاء فترة راحة أو استجمام، بل هاجروا لإقامة دولة إسلامية، ولو أقاموا هذه الدولة فلابد أن يعودوا إلى مكة مرة أخرى في يوم من الأيام، وعندما يعودوا إليها، لن يعودوا من أجل السكن فيها، لا، بل سيعودون من أجل أن يحكموا مكة، هكذا يقول المنطق، وطبيعة الدين الإسلامي هكذا تقول، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة (13) سنة، يفهمهم قضية أن الحكم لله، فمؤكد أن المسلمين لن يرضوا أن يبقى أهل مكة على تحكيمهم لهبل أو أنصار هبل في حياتهم، لابد أن يحكموا الإله الذي يعبدونه ألا وهو الله عز وجل، وبالتالي يحكمون مكة، وكان هذا مرعباً لزعماء قريش.
رابعاً: أن هذه الهجرة لم تكن إلى أي مكان، لا، بل إلى المدينة المنورة (يثرب)، وكان لها وضع خاص، ففي اعتقادي أن هذا المكان أكثر مكان لا يحب المشركون أن تكون الهجرة إليه، وذلك لعدة نقاط: الأولى: أن سكان يثرب هم الأوس والخزرج، وهم من أعز القبائل العربية، ومن أقواها في الحرب، وأشدها ممارسة لفنون