تهيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الصعب الحرج، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت فرصة كبيرة ليذهب إلى بلد كريم، وفي هذا الظرف يعرض على الأنصار شروطاً في منتهى المشقة لقبول استضافته، لم يعرضها على أحد آمن من قبل.
كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ييسر على الناس أمر الإيمان، كان يقبل أن يقوم الرجل بالفرائض فقط ولا يؤدي النوافل، وكان يقول: (أفلح إن صدق)، (إن صدق دخل الجنة) وليس هذا فحسب، بل كان يعطي الأموال من أجل أن يتألف قلوب الناس للإيمان.
أما الآن وهو في هذا الموقف الحرج فإنه يشترط شروطاً قاسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبني أمة، وفرق كبير بين بناء فرد صالح يعيش لنفسه ولأسرته، وبين فرد صالح في ذهنه وتفكيره أنه يحمل هم الأمة الإسلامية، ولا يعرف أن ينام وهو يرى حوله المنكر والظلم والكفر، ولو رأى أخاه يُظلم لابد أن ينصره، لو رأى أحداً يمس كرامة الأمة الإسلامية يقوم ويدافع عنها كما يدافع عن ابنه أو زوجته أو أمواله أو حياته، هذا هو الفرد المسلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيه في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية؛ من أجل ذلك قال لهم ما سيأتي، كما أنه كان يعلم أنه يخاطب أناساً على قدر المسئولية، كان يكلم الأنصار، ذكر لهم خمسة بنود: الأول: قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)، السمع في النشاط سهل، لكن في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول: تبايعوني على السمع والطاعة، لكن الغرض هو توضيح الرؤية تماماً، سواء كنت كَسِلاً أو نَشِطاً لابد أن تسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتطيع له.
البند الثاني: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، كذلك النفقة في اليسر سهلة، لكن في العسر تحتاج إلى أناس معينين.
البند الثالث: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا هو دور الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم.
البند الرابع: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم)، الجهاد وكلمة الحق.
البند الخامس: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، ليس فقط تمنعوني فحسب، بل تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؛ حبك لرسولك ولدينك ولأمتك لابد أن يكون أكثر من حبك لنفسك ولزوجتك وأولادك.
واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبني مسلماً من طراز خاص سيحمل هم الأمة كلها!