دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للخزرج في العام الحادي عشر من البعثة

قام الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلس بني شيبان، وانتقل مباشرة إلى مجلس فيه ستة من الرجال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك صغيراً ولا كبيراً إلا ودعاه للإسلام.

نسي الرسول صلى الله عليه وسلم كل شيء عن بني شيبان، وبدأ يتكلم مع هؤلاء في منتهى الحماس، قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج.

الخزرج قبيلة كبيرة مشهورة في يثرب، كما أن لديهم قبيلة مشهورة أخرى هي الأوس، وهؤلاء هم الأنصار، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي (500) كيلو تقريباً.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم المفاوضات بسؤال مهم، قال: (أمن موالي اليهود؟! -يعني: حلفاء اليهود؟ - قالوا: نعم).

كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطلعاً على أحوال زمانه، وكان يعرف موازين القوى في العالم، فمثلما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعامل مع بني شيبان، وعين لهم معه وعينهم الأخرى مع كسرى، أيضاً كان يعرف أن اليهود يعيشون في يثرب، وأنهم قوة سيكون لها أثر إما سلبي وإما إيجابي، ومن المؤكد أنه سيكون لها أثر أيضاً على من يعيشون بجانبهم.

فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخلفية في ذهنه، ثم قال لهم: (أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى) وجلسوا، فجلس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، كأي قبيلة من القبائل، فآمن هؤلاء الستة من ساعتهم.

لقد مرت علينا في السيرة مواقف كثيرة يؤمن فيها الإنسان بمجرد سماع القرآن، لكن هذا يكون على المستوى الفردي، لكن هذا الإيمان الجماعي غريب، ولا بد أن نقف معه وقفة لكي نحلل ونستفيد.

الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى كان يعد هذه المجموعة بطريقة عجيبة؛ لكي تقبل الإسلام بهذه السهولة، ثم بعد ذلك تتحرك بالإسلام بنفس السهولة، وكان هذا الإعداد بأمور: أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود.

اليهود خلق عجيب، كان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم: إنه سيظهر في هذا الزمان نبي وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، ونتيجة هذه الأخلاق الفاسدة وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، وفي نفس الوقت خوف كبير منهم، لكن الأهم من ذلك أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل كانوا يصدقون فكرة ظهور الرسل على خلاف أهل مكة، وفي نفس الوقت يملؤهم الخوف من الرسول الذي سيظهر واتحاد اليهود معه، فلما سمعوا هذا الكلام قال بعضهم لبعض بمنتهى الصراحة وأمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا قوم! تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.

لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة.

ثانياً: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت، كانت هناك حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، ففي يوم بعاث المشهور دارت حرب هائلة بين الأوس والخزرج، وهذا اليوم كان في نفس السنة، كان في السنة الحادية عشرة من البعثة، منذ شهور قليلة، ولو استمر الحال على هذا الأمر لفنيت القبيلتان.

ففكر الخزرج أن هذا الرجل -صلى الله عليه وسلم- بما له من حلاوة منطق وقرآن معجز يستطيع أن يجمع القبيلتين ويحفظهم من الهلكة، وهم بأنفسهم قالوا هذا الكلام، قالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك.

تقول السيدة عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم -يعني: بسبب هذا اليوم أتى الناس وآمنوا بسرعة- وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: شرفاؤهم- وجرحوا، فقدمه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام.

إذاً: خلفية العلاقة مع اليهود، وخلفية الصراع المهلك الذي كان في يثرب جعل هؤلاء الستة يسلمون بسرعة، وليس هكذا فقط، بل جعلهم يرجعون بسرعة إلى يثرب ليحاولوا نشر الإسلام بأسرع طريقة؛ لكي يوحدوا الأوس والخزرج، ولكي يستطيعوا أن يقفوا أمام اليهود.

هذا ترتيب رباني عجيب! ينصر رسله والذين آمنوا في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطط لمقابلة هؤلاء الستة هذه السنة، لكنه كان يعمل في دعوته بمنتهى الحماس، قابل بني عامر وبني شيبان وبني عبس وبني حنيفة وغيرهم وغيرهم، ولكن ربنا شاء أن يؤمن هؤلاء، وفي هذا التوقيت بالذات.

ونعود ونقول: ليس المهم كم شخصاً آمنوا على يديك، ولكن المهم كم شخصاً أوصلت إليه رسالة الإسلام.

وهؤلاء الستة هم: أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر.

وقطبة وعقبة ليسا بإخوة ولكنه مجرد تشابه في الأسماء رضي الله عنهم أجمعين.

قال هؤلاء الستة: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015