اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة عند رجوعه من الطائف، فاستوقفه زيد بن حارثة على مشارف مكة، وقال له: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه بيقين وقال له: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)، كأنه لم تكن هناك أي مشكلة وقعت لا في الطائف ولا مكة، بل كأنه سيبتدئ الدعوة من بدايتها.
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبواب مكة، وبدأ في التفكير في كيفية الدخول إليها، فقرر أن يستفيد من قانون الإجارة في مكة، وهو قانون محترم فيها، بما أن الذي يطبقه هم المشركون، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من هذه القوانين طالما أنها لا تتعارض مع شرع الله عز وجل، وليس هذا فحسب، فقد قرر أن يدخل في إجارة مشرك ليس من بني هاشم، وليس بمؤمن؛ لأنه لو دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمثابة إعلان الحرب بمكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن، وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، كما أنه لا يجد في بني هاشم على عظمها من يجيره، فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل ولن يترك أحداً من بني هاشم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأخنس بن شريك فلم تكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف، وأنه ليس رجلاً أصيلاً في مكة، فالحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المفروض أن يوافق، لكنه قال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، وسهيل بن عمرو من بني عامر، والرسول صلى الله عليه وسلم من بني كعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ويفهم القوانين، ويعرف أنها ليست حتمية، وأنه من الممكن أن يجير الحليف، وأن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلا لم يكن ليبعث لهم، كانت هذه اعتذارات مؤدبة من قادة مكة.
ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدي أحد زعماء مكة الكبار، وسيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وهو أحد الذين شاركوا في نقض الصحيفة بعد ثلاث سنين.
وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به الحمايات، وسارت به حتى وصلت به إلى البيت الحرام، فصلى ركعتين وقام المطعم بن عدي فخطب في الناس، فقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، ثم أوصلوه إلى بيته ووقفوا على بابه يحمونه! تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، وكان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، لكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، لكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، فلا تزال هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، لكن ما المانع من استغلالها؟ ما المانع من استخدام أحد المعارف من الكافرين للحماية ما دام ليس هناك تنازل ولا تفريط؟ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس، وحوله الأسلحة من كل مكان، لم يدخلها متسللاً أو منهزماً، ومع أن الحماية جميعها آتية من بني نوفل من المطعم بن عدي أحد المشركين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص أن يفهم جميع أهل مكة، والمطعم بن عدي أنه لن يتنازل عن الإسلام والدعوة، ولهذا كان أول شيء فعله صلى الله عليه وسلم أن ذهب إلى البيت الحرام يصلي فيه ركعتين على طريقة المسلمين، وأمام جميع الناس؛ ليعلن لأهل مكة ولبني نوفل وللمطعم بن عدي أنه ما زال على نفس الطريق، وسوف يأتي الحجاج لمكة، وسيخرج لهم أيضاً ليدعوهم للإسلام، تماماً كما كان يفعل في أيام أبي طالب.
هذا فقه الواقع، المهم لا يكون هناك تنازل.
عند ذلك يكون الوضع قد استقر نسبياً في مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم محمي بسيوف بني نوفل، وبكلام المطعم بن عدي الذي قاله وسط جميع الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجل بعيد النظر، حنكته التجارب، يعرف أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فقريش مهما كانت لن تترك المطعم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة طويلة أبداً، ومع هذا فـ المطعم أيضاً كافر وله طاقة والموقف صعب، ومن الممكن أنه لا يستطيع أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، كل هذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.