إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في فترة مكة.
تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي عصفت بمكة عندما تجمع بنو عبد مناف لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحصار الاقتصادي البشع الذي قام به الكفار، وعن فك هذا الحصار، وخروج بني عبد مناف من الشعب في محرم من السنة العاشرة من البعثة النبوية.
بدأت السنة العاشرة بمرض أبي طالب الذي بلغ الثمانين من عمره، كما أن حصار الشعب لثلاث سنوات أكل فيها من ورق الشجر والجلود، بالإضافة إلى القلق، كل هذا أضعف من قوته ولم يتحمل، ولشدة مرضه كانوا يتوقعون له الموت في أي لحظة، وكان زعماء الكفر يخافون من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موت أبي طالب فتعيرهم العرب بأنهم استغلوا موته لإيذاء ابن أخيه.
أي: أنه كانت توجد بقايا حياء عند أهل الجاهلية؛ لذا ذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه في صراحة أن ينظر لهم أي حل مع محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وجمعوا لذلك وفداً مهيباً من (25) رجلاً، كان منهم أبو جهل وأبو سفيان وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم كثير، قالوا له: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت -أي أن لك مكانة كبيرة عندنا- وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك من الموت، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، وهذا تنازل جديد، وهو في الحقيقة عرض مغر من زعماء مكة، فقبل هذا كانوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم ليترك فكرة الإسلام، وفي هذا الوقت يطلبون منه أن يظل هو وأصحابه مسلمين، ونحن سنظل على ديننا، وليس لأحد دخل بالآخر، فهؤلاء وهؤلاء سيعيشون متجاورين ولا يؤذي بعضهم بعضاً، لكن في المقابل ألا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات قريش، وألا ينكر عليهم منكراً، وألا يأمرهم بمعروف، وألا ينصح أحداً بتطبيق أحكام الله عز وجل على عباد الله، أي: متى ما أرادوا الصلاة فليس هناك مانع، ومتى ما أرادوا الطواف بالكعبة ليس هناك مانع، لكن ليس لهم دخل في شئون مكة الدنيوية، بل يفصلون دينهم عن دنيا مكة.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم للتو خارجاً من الحصار الرهيب الذي امتد ثلاث سنين، والمسلمون وبنو عبد مناف منهكون، وأبو طالب سوف يموت، ونصف المسلمين مهاجر إلى الحبشة، أي: أن الوضع في مجمله ضعيف، والذي يرى هذا الوضع يعتقد أن هذه فرصة كبيرة للمسلمين.
أرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له في حضور المشركين: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فالرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه وقال: (يا عم! أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال أبو طالب: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم).
القرشيون ما كانوا يحلمون أبداً بوحدة العرب، وفوق هذا أيضاً العجم! هذا فوق حدود التخيل، أين هم من فارس والروم؟ كل هذا بكلمة؟ أبو جهل كان يظن نفسه ملكاً، والعرب كلها ستسمع كلامه، وأيضاً كسرى وقيصر، فوجد نفسه يقول: ما هي هذه الكلمة؟ اندفع في تهور كالعادة وقال: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه)، فـ أبو جهل والذين معه أُصيبوا بالذعر، أما زلت مُصراً على ما أنت عليه؟ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب! فهؤلاء الكفار عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، لها يتعبون ويسهرون ويحزنون ويتألمون، وبعد هذا ما هي النتيجة؟ النتيجة لكل هذا التعب والسهر والكد والعرق، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] هذه هي العيشة التي يعيشونها، اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات، فهم في حذر وترقب ورعب وهلع، لا يستطيعوا أن يطمئنوا ولا أن يناموا ولا حتى أن يستمتعوا بحياتهم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ومع هذا أيضاً {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] نسأل الله العافية.
أما الصحابة فقد قالوا هذه الكلمة، واستطاعوا فعلاً تجميع العرب تحت راية واحدة، وبعد أن انتهوا من العرب انتقلوا إلى غيرهم، فقد سقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، فُتحت بقاع مهولة بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين