بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون.
بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم.
يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً.
يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً.
ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع.
المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه.
لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون.
لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش.
هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها.
كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس.
اجتمع ال